الخلاف بين الحزبين الكبيرين في كردستان العراق نابع في الأصل من خيارات استبداد وهيمنة وفساد قادها حزب مسعود بارزاني في إطار تطلعات وهمية لم تورث الأكراد والعراق برمته إلا البلاء.
زيف الحاجة إلى برلمان
ممتع للغاية أن ترى نواب البرلمان في كردستان العراق يتضاربون ويتقاذفون بما طالته الأيادي، بينما هم تحت شعار “وأمرهم شورى بينهم”. الشعار الذي يرتفع فوق منصة الرئاسة ليدلها ويدل النواب على ما يتعين عليهم الأخذ به.
الحادث بدأ، في الأساس، لأن رئيسة البرلمان السيدة ريواز فائق، وهي من حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني”، لم تأخذ بالشورى حتى مع نواب حزبها عندما قررت طرح موضوع “إعادة تفعيل مفوضية الانتخابات” على جدول أعمال جلسة يوم 22 مايو – أيار الماضي، بينما أراد نواب حزب الأغلبية “الديمقراطي الكردستاني” إحياء المفوضية من دون تحديث سجلات الناخبين، ومن دون إعادة النظر في تشكيلة المفوضية. بمعنى أنهم أرادوا أن يستخدموا غلبتهم في البرلمان، لأجل ألا تكون “الشورى” أساسا للعلاقة بين الأحزاب، لا داخل البرلمان ولا خارجه.
وهذه مفارقة ممتعة، ليس لأنها تكشف زيف الادعاء بالشورى فحسب، ولكن لأنها تكشف زيف الحاجة إلى برلمان من الأساس. أما التضارب والتقاذف، فهو يكشف عن حجم الضغينة السائدة في العلاقة بين الحزبين الكبيرين.
◙ العشائرية ليست نقيضا تاما للمدينية فحسب، ولكنها ردة دائمة إلى الوراء أيضا. وبالتالي، فإنها مصدر دائم للنزاعات والتوترات، عندما تتناقض طبيعتها مع طبيعة المجتمع الذي تتحكم فيه
التسويات التي قيل إنه تم التوصل إليها، ظهر أنها مزيفة. والوساطة التي قامت بها سفيرة الولايات المتحدة في بغداد آلينا رومانوسكي، أو “مس بيل” الجديدة في العراق، ظهر أنها مزيفة أيضا، ليس لجهة سعيها نفسه، ولكن لجهة القبول المنافق بنتائجها. والنفاق أمر لا بد وأن تكون رومانوسكي قد اعتادت عليه في العلاقة مع أحزاب وميليشيات وحكومة بغداد. وهو ما ظل يدفعها إلى تكرار الزيارات وتوثيق الوعود لأجل ألا يتملص أصحابها منها، كل مرة بذرائع جديدة.
الخلاف بين الحزبين الكبيرين في كردستان العراق نابع في الأصل من خيارات استبداد وهيمنة وفساد قادها حزب مسعود بارزاني، في إطار تطلعات وهمية لم تورّث الأكراد، والعراق برمته، إلا البلاء. وحيث أنه يتمتع بالأغلبية في برلمان كردستان مما يؤهله إلى قيادة الحكومة، فإن شراكته مع “الاتحاد الوطني الكردستاني” لم تكن شراكة شورى، وإنما شراكة منافسة وإضعاف، أملا بأن يمتد نفوذ “الديمقراطي الكردستاني” إلى السليمانية، مركز نفوذ “الاتحاد الوطني”، بينما لم يكن ليسمح للطرف الآخر بأن يتمدد إلى دهوك وأربيل.
“الاتحاد الوطني” وإن ظل خاضعا لأسرة طالباني، إلا أنه أقل عشائرية من حزب مسعود. السليمانية حاضرة مدنية أقدم من أربيل على أيّ حال. وهذه الحاضرة تفرض شروطا على قاطنيها، لم تفرضها أربيل على حزب العشيرة، بسبب حداثة عهدها مع التمدن.
هناك خطان من خطوط القسمة، إذن، يجعلان “الشورى” زيفا لا مبرر له في البرلمان. الأول مناطقي، والثاني عشائري. وثالثهما الفساد.
وهو الحال نفسه السائد في باقي العراق. فالبرلمان في بغداد يقوم على خطوط قسمة مماثلة، طائفية و”داخل طائفية”، وثالثهما الفساد أيضا.
يوم مات المشروع الوطني في العراق، فقد تولت أحزاب الفساد دفنه. وأصبحت الميليشيات هي الحاكم الفعلي، لتتقاسم العراق حصصا فيما بينها وتنهب لنفسها ولوليها الفقيه في إيران. حتى لتبدو وكأنها ميليشيات وأحزاب غزاة. وهو ما يجعل العراق حالة ميؤوسا منها ما بقي المشروع الوطني دفينا تحت سنابك الغزاة.
المشروع القومي الكردي كان مجرد مشروع نظري. وعندما تولته العشيرة، فقد أضفت طابعها عليه، بدلا من أن يضفي هو طابعه عليها، فجعلته مشروع هيمنة وفساد.
المشاريع القومية التحررية، ما لم تكن مشاريع مدينية، متحضرة، فإنها مهما حاولت أن تتغطى بشعارات مزيفة، لن تعدو كونها تطلعات مزيفة. ولن تفعل أكثر من أن تصيب تطلعاتها بالهزيمة والخسران.
الشيء نفسه حصل مع الأحزاب القومية العربية. فهي أقامت أنظمة استبداد أولا. وأخذت بمسار يسعى إلى إملاء الإرادات بالقوة. وذلك وفقا لقناعات مطلقة بأنها تقف على ناصية الحق، وكل ما عداها باطل. “الشورى” لم تكن قاعدة مبدئية على الإطلاق، لا في داخلها، ولا في العلاقة بينها وبين المجتمع الذي تقوده.
والشورى، في أصلها، سلوك مديني، ينطوي على قبول ضمني بالتعددية، وله أرض يقف عليها، وسقف يعتليه. أما الأرض، فإنها قائمة على نبذ الحكم المطلق في شؤون الدنيا. وأما السقف، فإنه قائم على “الإجماع”. الأول، “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”، والثاني “ما أجمعت أمتي على باطل”. وفي المسافة بين سقف وأرض هناك مساحة واسعة للقبول بالاختلاف وللتعايش معه.
العشائرية ليست نقيضا تاما للمدينية فحسب، ولكنها ردة دائمة إلى الوراء أيضا. وبالتالي، فإنها مصدر دائم للنزاعات والتوترات، عندما تتناقض طبيعتها مع طبيعة المجتمع الذي تتحكم فيه.
◙ التسويات التي قيل إنه تم التوصل إليها ظهر أنها مزيفة والوساطة التي قامت بها سفيرة الولايات المتحدة في بغداد آلينا رومانوسكي أو “مس بيل” الجديدة في العراق هي الأخرى مزيفة
لم يفعل نصف القرن الماضي، وخاصة ربعه الأخير، من التحديث المديني في كردستان العراق أن دفع إلى تغيير مسالك الهيمنة العشائرية في أحزابها الكبرى. وهو ما دفع إلى ظهور تيارات معارضة أكثر تعددية وانفتاحا وتجسيدا لما تغير من أحوال المعاش في مدن كردستان الكبرى، إن لم يشمل ريفها أيضا.
قوى المعارضة هذه باتت الآن “قوة ثالثة” كبرى. ولو أنها اجتمعت، في إطار تحالف مّا، فإنها تستطيع طرد العشائرية ومسالكها. سوى أنها ممزقة على رؤى متفاوتة. بعضها وجد في الإسلام مرجعية جامعة، وبعضها وجد في الوطنية الكردية مشروعا جامعا، يتوافق مع وطنية عراقية ضعيفة، ولو من باب موارب.
تمزق “القوة الثالثة” هو ما يوفّر للعشائرية أساسا لكي تواصل الطغيان، على كردستان وعلى بعضها بعضا، في آن معا. والفساد هو قطب الجذب الذي يغريها بانعدام الحاجة إلى إعادة بناء العلاقات السياسية بين أطراف اللعبة “الديمقراطية”، لكي تكون ديمقراطية فعلا، أو مدينية فعلا، تتعايش مع الاختلاف وتستعين عليه بالشورى.
وبالنظر إلى القدرة على التضارب والتقاذف الجماعي بين النواب، وحيث أن الفساد هو المرجعية العليا، وبدلا من شعار “الشورى” الذي ما يزال أبعد من أن يُطال، فإن الشعار الصحيح الذي يتعين أن يرفعه البرلمان في بغداد والبرلمان في كردستان، هو: “قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق”.
علي الصراف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة