إذا ما كان هناك من تعريف أسلم يميّز فيه الإنسان عن كافة الكائنات الحية الأرضية فإنه بالكائن المفاوض. في ذلك يبدو بأن تعريف أرسطو للإنسان بأنه حيوان ناطق أو سياسي فيما بعد ينتابه الكثير من الشك لما يفقده الكثير من الخصوصية. من حيث أن أغلب الحيوانات تطلق نطقاً ارادياً؛ فلا يهم كثيراً إن كان غريزة أم بشكل عقلاني. المشترك بين كل مقاربة تنحو للكشف عن حقيقة الإنسان في أنها كلها تؤكد حاجة الاجتماع؛ بغض النظر إن كان اجتماعاً عادلاً أو يفتقد إليه. مع العلم بأن الاجتماع البشري منذ مغادرة المجتمع الطبيعي إلى الوضعي عن طريق الرجل الماكر وليس الحاذق مُنطبق عليه بالاجتماع البراغماتي المحض وليس الأنسي الحق. براغماتية الاجتماع المحضة هنا أحدثت تحولاً بفعل ثلاثية الملكية والثروة والسلطة إلى المزيد من الحروب، وكل الحروب في أحسن تعاريف لها بأنها طريقة البحث البغيضة عن الحل. حينما تفشل مفاوضة ما بين ضفتين متقابلتين متعاكستين يستعصى تحقق الاجتماع السوي حينها تقرع طبول الحرب. لا يهم هنا كثيراً إن كانت حرباً بينية أهلية أو حرباً تشترك فيها طرفين أو عدة أطراف خارجية وداخلية. في هذا فإن كل الحروب في تاريخ البشرية الوضعية بما نتجت عنها من اتفاقات؛ تُذْهِب الجديدة بالقديمة؛ سمتها القلق، وتفضي حين توفر ميكانزمات معينة إلى انزياح معين مختلف للوضع الذي يسبقه أو مُؤَدٍّ إليه.
في غمرة الحرب السورية تتعقد الأمور اليوم إلى درجة تكاد تكون بالخارجة عن السيطرة. زجّت فيها أطراف سوريّة تنتمي إلى مكونات شعب سوريا الذي يتألف من شعوب متعددة. في الوثائق الفرنسية أيّام انتدابها على سوريا موّثق فيها 38 شعب وقومية ودين وطائفة ومعتقد. لا يمكن القول بأنه يوجد في سوريا أكثرية وأقلية يمكن القول فقط بأن سوريا بلد الأقليات. وهذا من المؤكد دليل قوة فيما لو أردنا كسوريين ودليل ضعف فيما لو ترك مربط الفرس السوري بيد غير السوري. كما الذي يحدث اليوم والذي يذكرنا بمشهد الدول التي خسرت الحرب العالمية الثانية وباتت غيرها من تحدد مصيرها. علماً بأنه في حقيقة سوريا اليوم مركز يجري تصارع كبير وتقع عليها حرباً عالمية ثالثة. بالرغم من ذلك فإن الفرصة ما تزال في يد الوطنيين الديمقراطيين من أبنائها وبناتها.
لكن كيف؟ ما يلزم توفر ذهنية ديمقراطية على قطيعة مع الذهنية القديمة المسؤولة عن كل هذا الدمار وكل هذا التدخل في سوريا؛ بخاصة فإن التاريخ إلى صف السوريين هذه اللحظات التاريخية الحاسمة التي تمر بها المنطقة. فأول معاهدة سلام مؤرّخة موّثقة جرت على الجغرافية السورية هي معاهدة/ اتفاقية قادش على نهر العاصي. يجب على الأفرقاء السوريين على كامل الجغرافية السورية اللحظة عدم المضي الانفعالي في عصيان تاريخهم. معاهدة قادش وهي أقرب أن تكون اتفاقاً ما بين الامبراطورية الحثية – الحثيون شعوب هندو أوربية- التي أنهت أولاد عمومتها من الامبراطورية الهورية عاصمتها واشو كاني (تل حلف) الملاصقة اليوم لسريي كانيي (رأس العين) من طرف ومن طرف آخر الامبراطورية الفرعونية بقيادة الفرعون رمسيس الثاني في العام 1258 قبل الميلاد.
وما يلزم أيضاً الابتعاد جميعاً عن القوقعات. المعارضة أو المحسوبة عليها تقوقعت على نفسها في خطاب إقصائي وصل بها الحد على الترحم بديكتاتور مثل صدام حسين وهتلر، فبات كل طرف إقليمي يشدها إلى حضنها تنفيذاً لأجندتها الضيقة لا للأجندة الوطنية السورية الوسيعة. حتى استقرت اليوم بغالبها في حضن أنقرة، دون أن تمتلك القدرة من التمييز ما بينها وجبهة النصرة أو الأسماء المستجدة التي حاولت طرحها بجهد التملص من تصنيف الجبهة الإرهابي. هذا الشيء ينطبق مسبقاً على السلطة في دمشق التي سبب اصرارها من قوقعة إعادة انتاج نفسها من صيغة 2011 النظام شديد المركزية الى حرق أكثر من نصف البلد.
وما يلزم أخيراً الالتزام بروح التفاوض ومبدأه الأساسي المتمثل بالانتقال سوياً إلى خلق منطقة جديدة يصنعها الطرفين أو الأطراف المتفاوضة، فعدم التموقع، والابتعاد عن الشروط المسبقة التي لا تعني التخلي عن الثوابت الوطنية الديمقراطية من شأنها احداث اختراق حقيقي في الأزمة السورية. فتلك المعارضة التي حضرت تسع جنيفات سوريّة واشترطت برحيل الأسد كانت تذكّي التدخل الخارجي في الشأن السوري إلى أقصى حدوده، في مثال إقرار 12 نقطة مراقبة تركية في إدلب التي تحترق وحدها اللحظة، كما أن السلطة السورية التي أصرت –مثالاً- على وفد مجلس سوريا الديمقراطية في 8 أغسطس آب 2018 بأن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (مرحلية)، وأن المطلب الوحيد الممكن تحقيقه في أن يتم فتح مدارس خاصة لتعليم اللغة الكردية. علاوة أنها كانت بغير الواقعية فإنها افتقدت أدنى حالات التفاوض أو الحوار المسؤول، وكانت لقصدية المطلب الاصرار كأن هدف الوفد المحاور هو حل القضية الكردية فقط وبأن هذا الحل يكمن في نيل الكرد الحقوق الثقافية؛ في أحسن توصيف لذلك بالطبع. في الوقت الذي بات فيه الجميع يعلم بأن لمجلس سوريا الديمقراطية مشروع من أجل دمقرطة سوريا كلها عن طريق تأسيس نظام سياسي سوريّ لدولة لا مركزية ديمقراطية. لقد كان اصرار السلطة بمثابة مجرد املاءات في عباءة مهترئة أسموها بالمصالحة، أوصلت هذه الاملاءات لا بل عبدّت الطريق مسبقاً فيها إلى احتلال تركيا لعفرين ولاحقاً منها في أن يظهر التفاهم الأمريكي التركي في 6 أغسطس آب الحالي في أورفا كأفضل الحلول المتاحة لتجنيب المنطقة من حرب وفوضى تخرج سوريا منها مقسمّة مفتتة.
أيّاً تكن التفاهمات التي تحدث، واللقاءات التي عقدت وتعقد ما بين المتدخلين في سوريا، فإن فتح حوار بإشراف أممي/ روسي ما بين السلطة في دمشق ومجلس سوريا الديمقراطية لن يعتبر وحسب أولى فصول اسدال ستار الدمار السوري وانهاء المعاناة السورية وفتح الطريق نحو ترسيخ الأمن والاستقرار السوري؛ إنما بمثابة إيجاد مخرج آمن للمتدخلين المنهكين في سوريا؛ إقليميين كانو أم دوليين. بخاصة أن كل الوقائع تؤكد بأن حالة اللا حرب واللا سلم المشهودة ما بين السلطة في دمشق ومجلس سوريا الديمقراطية يجب أن تتخلف كي تَحُلّ في المقدمة حالة المفاوضة أو الحوار الجاد ما بينهما. وحين تخصيص الطرفين فإنه بسبب لما يحظيان بهما من دور مؤثر والدفع في عملية تغيير حقيقية سورية، ولا يعني ذلك على الإطلاق بأن يفهم منه أو ينجم عنه تجنيب القوى والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والشخصيات الديمقراطية السورية الموجودة خارج الإطارين: السلطة في دمشق ومجلس سوريا الديمقراطية.
سيهانوك ديبو – نبض الشمال