صفقة القرن ستكون حول دمشق، لا القدس. وفي المشهد الحالي، لا يمكن النظر إلى أي متغيرات سياسية أو عسكرية تجري اليوم، إلا على أنها مجرّد تفاصيل، أما النهج الكبير، فهو أن الصفقة قادمة وأنها ضرورة للطرفين، العربي والإسرائيلي.
حتى يكتب النجاح لصفقة القرن الحقيقية القادمة، يجب أن توضع على سطح المكتب جميع القضايا، بما فيها الوصول إلى الاستقرار ومن ثم إعادة الإعمار
لا يتوهم أحدٌ أن “صفقة القرن” التي طرحها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والتي كان عرّابها صهره جاريد كوشنر مجرّد صفحة طويت من سجّل إدارة ترامب مع ما طوته الإدارة الديمقراطية الجديدة.
من الواضح أن ما تم التأسيس له عبر هندسة صفقة قادمة لحل جميع مشاكل الشرق الأوسط جملة واحدة، إنما كان خلاصة المئات من الدراسات المستقبلية التي رأت أنه لا يمكن العبور إلى شرق أوسط جديد بـ”التقسيط”، وأنه من المفيد لجميع الأطراف اعتبار أن مفتاح الحلول هو وضع حد للصراع العربي الإسرائيلي، وإن كان كثير من الإسرائيليين، وبالأخص غير الرسميين منهم، يرفض تعبير “صراع عربي إسرائيلي” ويطالب بتحديد أطراف الصراع “فلسطيني – إسرائيلي”، “لبناني – إسرائيلي”، “سوري – إسرائيلي” إلى آخره، وأنه من غير الدقيق القول إن جميع العرب في حالة صراع مزمن مع الإسرائيليين. ناهيك عن عنصر غاية في الأهمية لجميع الأطراف، هو الأمن القومي.
أما الأمن القومي الإسرائيلي، فهو نطاق واسع بقي مسيطرا على الذهنية السياسية الإسرائيلية منذ ما قبل تأسيس الدولة وحتى اليوم، وظل ورقة رابحة في جميع طاولات القمار التي خاضتها الدولة العبرية، سواء كانت المقامرة عسكرية أو سياسية أو اقتصادية. لكن ذلك الأمن القومي الإسرائيلي يبقى في حالة هشة ما دام يقوم على قواعد متباعدة، ما بين نهري المسيسيبي غربا والغانج شرقا، تفصلهما بقع تشكل تهديدا وجوديا لإسرائيل. بينما يبدو الأمن القومي العربي اليوم في حالة اضمحلال تام، بعد غياب التنسيق المشترك بين الدول العربية وتقطّع العلاقات ما بين محاور كانت بمثابة حامل للحالة العربية في الماضي، بغداد، الرياض، القاهرة ودمشق بالطبع.
إلا أن الأمن القومي العربي ليس خيارا سياسيا، بل هو انتظام تفرضه الجغرافيا والتاريخ ومصالح الدول الواقعة في نطاق حيوي واحد، وهو يعيد تشكيل ذاته كل مرة. وفي ظروف مستجدة رسّختها السنوات العشر الماضية أعادت توزيع خطوط النفوذ، فظهرت عواصم مؤثرة في الخليج العربي، لعبت أدوارا حساسة ومؤثرة في تغير مسارات الأحداث والتحولات. ما دفع بالنظام العربي القديم إلى الشعور بضرورة تجديد ذاته، أو على الأقل السعي للاستفادة من بقايا تأثير مازال بوسعها العودة إلى الحياة من جديد.
القاهرة الباحثة عن دورها التاريخي كمركز ثقل عربي من جهة، وكوسيط أول ما بين العرب وإسرائيل من جهة أخرى، تشعر اليوم أكثر أن دورها السابق يضمحل، وبغداد التي لم يعد بإمكانها الاستمرار في حالة تبعية تامة للولي الفقيه، وإن أظهر الخطاب السياسي الإسلامي المهيمن على العراق ذلك وتمسك به، إلا أن الأمور تتحرّك عادة وفق قواعد أخرى أكثر سطوة.
الرياض تغيرت وقادت ثورة داخلية رفعت عن المجتمع السعودي أعباء كبرى كانت قد جعلت من حركة أكبر بلد عربي إسلامي وئيدة متباطئة حيال تغير المعطيات من حولها، وباتت اليوم أكثر قدرة على التحرّك السياسي نحو خيارات غير مقيّدة باللكنة الإسلامية التقليدية أو حتى بقاعدة “ضرورة البقاء دولة محافظة” التي طالما تغنّت بها النخب السعودية.
وتبقى دمشق هي المشكلة، فالثبات الذي أظهره النظام السوري أمام العاصفة، والأساليب العديدة التي اتبعها والتحالفات التي أقامها، التي رآها صنّاع القرار هناك مؤقتة ويمكن التخلص منها في الوقت المناسب، كل تلك العوامل أبقت الحاجة العربية إلى عاصمة الأمويين أكثر إلحاحا، بغض النظر عمّن يحكمها اليوم، الأسد أو معارضوه.
بالنسبة إلى من فكروا في صفقة القرن، لا يمكن لأي تطبيع أن يجد له متنفسا في الراهن والمستقبل، من دون دمشق، وعلى هذا أن يكون علنيا هذه المرّة، رسميا ونهائيا، بينما يمكن تجاوز المسألة الفلسطينية واعتبارها شأنا داخليا، إسرائيليا فلسطينيا، وهذا هو جوهر “اتفاقية أوسلو” التي نقلت الصراع من مظلته العربية الشاملة إلى حالة ثنائية صرفة وتنسيق أمني وضرائب.
ويأتي مسار التطبيع الذي اشتقته، بصعوبة، بعض الدول العربية، ليكسر الجدار العازل، ليس فقط أمام العرب تجاه الإسرائيليين، ولكن أيضا أمام الإسرائيليين تجاه العرب وقضاياهم.
وحتى يكتب النجاح لصفقة القرن الحقيقية القادمة، يجب أن توضع على سطح المكتب جميع القضايا، بما فيها الوصول إلى الاستقرار ومن ثم إعادة الإعمار، وهذا ليس مستحيلا، فالحاجة السكانية إليهما بلغت ذروتها، إذ لا يمكن للمنطقة أن تستمر هكذا، آفاق مسدودة للحلول، ومخيمات وأعباء اقتصادية واستعصاء هنا وهناك.
إسرائيل الموجودة بقوة في الشمال الشرقي السوري كما هو الحال في شمالي العراق، حيث الحاضن الكردي الذي لم يكن يرى له في الصراع العربي الإسرائيلي ناقة ولا جملا، لن يكون صعبا عليها إيجاد صيغة للتفاهم حول الجولان، ليس مع الأسد بالطبع، بل مع حالة وصاية أكبر منه ومن معارضيه، وسيكون ثمن ذلك التشكيل السيادي الجديد للشرق الأوسط.
تدرك إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة أن الفضاء العربي في المشرق، العراق وسوريا ولبنان، بات في لحظة قبول اضطراري لأي مخرج من الأوضاع الراهنة، لكن هل هي جاهزة لدفع الثمن؟ هذا ما تعكسه التحولات السياسية على الساحة الإسرائيلية، والتخلص من بنيامين نتنياهو جزء أساسي من هذا النهج. فلن يقود السلام في المنطقة متعصبون ونسخ ملوّنة عن داعش والقاعدة وشاس، بل أولئك الذين خرجوا على كل تلك الأفكار، قادمين من ذهنية ما بعد الصراع، وما بعد وقوع المجازر، أي حالة ما بعد الأمر الواقع. وهؤلاء لن يناقشوا الأمور في حواراتهم من الألف إلى الياء، بل من هذه اللحظة واستحقاقاتها.
يقف في وجه هذا المشروع الذي يبدو كخيار وحيد، العامل الإيراني بوصفه عامل رفض لسياسات الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، والأصابع الإيرانية التي امتدت للعواصم العربية، هي تعبير عن إجراء استباقي من طهران، لما يمكن أن يحدث، لكن الشروط آخذة في الاكتمال من أجل إخراج إيران من الساحة وحصرها داخل حدودها، ولم يعد أحد يصدّق شعارات إيران وميليشياتها الطائفية حول المقاومة وفلسطين، فصفقة القرن الجديدة القادمة هي حول دمشق، لا حول القدس.
وفي هذا المشهد، لا يمكن النظر إلى أي متغيرات سياسية أو عسكرية تجري اليوم، إلا على أنها مجرّد تفاصيل صغيرة، أما النهج الكبير، فهو أن الصفقة قادمة وأنها ضرورة للطرفين، العربي بتعدد مواقفه وتوجهاته، والإسرائيلي بنسخته الجديدة، وهي ليست غراما بالإسرائيليين أو استجداء لمساعدتهم. وليست بالمقابل أجنحة سلام بيضاء تنبت من بين أكتاف ورثة الحركة الصهيونية، بل إدراكا منهم لحقيقة أنه لا يمكن لإسرائيل الاستمرار وسط بحيرة من الدم والخراب. وأن الخيار الأفضل هو إعادة الإعمار، سياسيا واقتصاديا وتاريخيا.
إبراهيم الجبين – كاتب سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة