قبل بدء شهر رمضان هذا العام، أصدرت قائمقامية مدينة الموصل تعميماً يقول: “يمنع منعا باتة الإفطار العلني وعلى الجهات الأمنية اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن المخالفين”.. لم يستند التعميم إلى أي قانون عام في البنية التشريعية والدستورية للدولة العراقية، حيث أن القائمقامية وظيفتها التفصيلية حسب تشريعات العراقية هو “تنفيذ القوانين والأنظمة والأوامر الصادرة عن الأجهزة التشريعية”. على العكس تماماً، فإن قرار الجهة المذكورة يناقض جوهر نظام الحُكم والسيادة في دولة العراق، حيث تنص المادة الخامسة عشرة من الدستور العراقي: “لكل فردٍ الحق في الحياة والأمن والحرية، ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون، وبناءً على قرارٍ صادرٍ من جهةٍ قضائيةٍ مختصة”!.
لكن قبل كل ذلك، كيف لذلك القرار الذي يُقيد بشكل واضح وعنيف حرية الضمائر والسلوك الشخصي غير المخالف للقانون في مدينة مثل الموصل، التي دفعت أفظع الأثمان دفاعاً عن تلك الحريات والسلوكيات المدنية، ولاتزال الأوابد الراهنة لعمرانها تشكل أكبر شاهد ودليل على فظاعة أفعال العقل الإيديولوجي السلطوي بحقها. مدينة تاريخية كُبرى، استثنائية بمكانها وتنوع هويات ومنابت سُكانها وتاريخ ثقافاتها المحلية، مُحقت بالكامل، صارت رملاً على الأرض، لأن تنظيماً قروسطياً متخماً بالعُنف والسُلطة قد سيطر عليها، وأراد الحد من حرية ضمائر مواطنيها وسلوكياتهم المدنية الطبيعية، فجاء “المحررون” –ومنهم طبعاً قائمقام المدينة وباقي موظفيه الذين أصدروا القرار الأخير- ودخلوا حرباً كان عنوانها الأوسع: إن تدمير المدينة كاملة عبر حرب ماحقة، أفضل من بقائها تحت سيطرة ذلك التنظيم الذي يقيد حرية الضمير والسلوك المدني للسكان!
أغلب الظن أن مزيجاً مؤلفاً من ديناميكيتين داخل وعي وعقل قائمقام المدينة وغيره من الموظفين العموميين قد دفعهم لعدم رؤية ذلك التناقض، أي القيام بفعل شبيه بما نفذه تنظيم عقائدي عنيف بحق سكان هذه المدينة، في وقتٍ لا يكلون عن النداء والخطاب بأنهم محررو المدينة من ذلك.
إذ لا يرى القائمون على تلك المؤسسة الرسمية في قرارهم ما يطابق السلوكيات الداعشية. فهم يختصرون داعش في تلك الجهة التنظيمية التي تقوم بقطع الرؤوس عليناً في الشوارع، وتالياً يعتبرون الأفعال التي ما دون ذلك غير داعشية حسب وعيهم. وطبعاً لا يصدقون بأن تراكم مثل تلك الأفعال التفصيلية المناهضة للحريات والسلوكيات المدنية، إنما تؤدي في المحصلة لخلق بيئة مناسبة للأفكار والسلوكيات الداعشية.
كذلك، فإن القائمين يرون في قرارهم ملاقاة ما للضمير العام للمجتمعات التي يحكمونها. يعتقدون بأن مثل ذلك القرار إنما يطيب للقواعد الاجتماعية الأوسع انتشاراً، التي تؤمن بقداسة وشرعية مثل تلك القرارات الدينية السلطوية على الناس في المجال العام. هذا الأمر، الذي وإن كان صحيحاً من حيث طبيعة القواعد الاجتماعية في تلك المنطقة، لكنه يتناقض جوهراً مع مهمة المؤسسة العمومية، التي من المفترض أن تُمثل الدولة وقوانينها المدينة التي تقدس الحريات العامة، وليس ملاقاة ضمير جمعي محافظ وربما سلطوي بعمومه. لكن ملاقاة الناس ومراءتهم أكثر أهمية وعمقاً في ذوات الفاعلين.
على غرار ما جرى في مدينة الموصل، وبسبب تلك الديناميكيتين المذكورتين سابقاً، فإن أعداداً هائلة من السلوكيات والقوانين والقرارات تصدر بشكل شبه يومي عن المؤسسات والموظفين العموميين في دولة العراق، وحتى في غيرها من بلدان منطقتنا.
في المحصلة، تفعل جميعاً ما كانت تفعله قوى الإسلام السياسي السلطوية، من فرض أنواع من القيم والسلوكيات والخطابات وأشكال التماثل على المجتمعات في المجال العام، وحتى الخاص، وإن كانت مناقضة في جوهرها للحريات المدنية والحقوق الدستورية. لكنها جمعياً تستفيد من جهة مما تعتقد بأنها أفعال أقل ضراوة من أفعال التنظيمات المتطرفة، وملبية لمتن الشرائع الدينية، وإن كانت فعلياً تؤدي لنفس نتيجة الفعل الداعشي. ومن جهة أخرى ترى نفسها ملبية لما للضمائر والمعتقدات الجمعية للنسبة الغالبة من أبناء مجتمعات منطقتنا، بالذات من حيث منحها شرعية لفرض القيم والسلوكيات الدينية على المجتمعات، وأولويتها على الحريات والقيم المدنية.
منذ أوائل التسعينات من القرن المنصرم، كان ثمة في منطقتنا موقفان ثقافيان/سياسيان مستقطبان من هذه المسألة: كان الأول “علماني” الهوى والنزعة، يرى أن العطب الأساسي كامن في بنية مجتمعاتنا، التي يشكل نوعية وعيها الديني الأس الجوهراني الذي يمنح السلطات الحاكمة والتنظيمات المتطرفة الأرضية الخصبة للإطاحة بكل الحقوق المدنية والحريات العامة والمنجزات “الحضارية” التي من المفترض أن نكسبها من التجربة العالمية. وقد كان يترتب على تلك النزعة الثقافية/العلمانية القول إن أساس أي تغيير إنما يجب أن يمر عبر تغير المجتمعات ومعتقداتها وآليات وعيها، بالذات للمسألة الدينية، وأن أي تغيير دون ذلك، بالذات في المستويات السلطويات الحاكمة، إنما هو تغيير سطحي وهامشي التأثير فحسب.
القطب الآخر من تلك النخب، كان يرى العطب في الأنظمة السياسية والتنظيمات السياسية، التي كانت المسبب الرئيسي والجوهري لكل ما يُقترف بحق طيف الحريات والحقوق المدنية. كانت النخب التي تنتمي إلى هذا التفسير ترى أن تغيراً ما في طبيعة الأنظمة الحاكمة، إنما سيفسح المجال واسعاً أمام مجتمعاتنا لتقديم صورة بديلة عن نفسها، أكثر بهاء واتساقاً مع الكل العالمي الحديث.
في المحصلة، لم يُنتج ذلك الاستقطاب التفسيري معرفة موضوعية بتلك العلاقة المركبة والمعقدة بين أشكال الوعي الديني السلطوي لمجتمعات منطقتنا، وبين القوى السياسية والتنظيمية الحاكمة، وكيف أن كل واحدة منها تعمل تفصيلاً على تعزيز الأخرى.
فمجمعاتنا لاتزال دينية الوعي بعمومها، أي أن الدين بالنسبة لها ليس مجرد مجموعة من العقائد والسلوكيات الفردية فحسب. بل الدين بالنسبة لها أكثر جذرية من ذلك بكثير، هو الهوية والإطار العام لفهم الحياة والأخلاق ومنظومة القيم، وأولاً يفوق بمكانته وسلطته أية اعتبار للحريات العامة والحقوق المدينة، ويملك شرعية أن يُفرض بالعنف وحقاً أعلى من كل النصوص الدستورية والشرائع المدنية.
الأكيد أن ذلك ليس شيئاً جينياً أو قدرياً في ذوات أبناء منطقتنا، وأنه حدث لأن مجتمعاتنا لم تعش تجارب طويلة ومتراكمة من التعليم المؤسساتي المتين والاقتصاديات الصناعية والانتاجية والثورات المعرفية في العلوم الطبيعية والإنسانية، والكثير من التفاصيل الأخرى التي أعاقت مسيرتها نحو الحداثة الإنسانية الكبرى. لكن عدم الاعتراف بكل ذلك، أيضاً معضلة كبرى، لأنها تعتبر داعش كائناً فضائياً وغريباً، وهو ما أثبت كل تفصيل عدم صحته.
رستم محمود – كاتب وباحث سوري – موقع الحرة
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والجهة الناشرة