يعتقد البعض بأن المشكلة في سوريا ليست مشكلة دستور، كنص، إنما في تطبيقاته العملانية. ولكن هذا الاعتقاد يجانب الصواب، وفي الوقت ذاته يدعو إلى العدمية تجاه ما يرسم للسوريين في الخارج من مبادئ تنظم حياتهم القادمة، والانكفاء أو التقاعس عن مواجهة ما يرسم. ونذكر هنا بدستور أو قانون بريمر في العراق الذي رسم خارطة العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية المثيرة للجدل ربما لعقود من الزمن. وثمة اتجاه آخر لا يقل عدمية يدعو إلى الرضوخ والاستسلام لمشيئات الخارج الذي وحده قادر على حسم المسألة السورية في ظل عجز السوريين عن أخذ زمام المبادرة، ويسوق في هذا الصدد اللجنة الدستورية.
برأيي، لقد اتفق الأمريكي والروسي على خارطة طريق للتسوية السورية تخالف جنيف ١ وتوافق القرار الأممي ٢٢٥٤، وهي تستند إلى مسار أستانا وسوتشي وورقة باريس التي سميت اللاورقة التي أقرتها الدول الغربية والعربية عشية مؤتمر سوتشي، وأساسها المحاصصة بين النظام والمعارضة التي يحددها دستور جديد للبلاد تكتب مسودته لجنة دستورية تتثالث فيها خيارات سوريا: ثلث للنظام وثلث للمعارضة وثلث للمجتمع المدني والمستقلين.
لقد أصرت تركيا على تسمية تشكيلة المعارضة لتمنع مشاركة الكرد ككتلة سياسية في قائمة المعارضة، كما عملت مع شركائها الروس والإيرانيين لتقاسم قائمة الأمم المتحدة بحيث تحدث توازناً في اللجنة الدستورية مع النظام وحليفيه روسيا وإيران، ولقد نجحت إلى حد ما في مسعاها مقابل القبول بالمحاصصة السياسية. وبالنظر إلى تشكيلة اللجنة الدستورية فإنه يمكن القول أن الغائب الوحيد عنها هو الديمقراطية. وغياب الديمقراطية يفسره، أولاً رفض الدول المتدخلة والفاعلة لمبدأ الانتقال إلى الديمقراطية في سوريا لأن الخيار الديمقراطي هو الوحيد الذي ينقذ البلاد ويضعها على سكة التطور والتقدم مما يضر بمصالح هذه الدول. والثاني وهو تشرذم القوى الديمقراطية وغياب مشروعها السياسي أو ضعفه أمام المشاريع الأخرى، وعدم وجود قوى دولية تساند هذا الخيار في وجه الدول التي تساند بقاء أو إعادة إنتاج الاستبداد.
إن الطريقة التي أقرت بموجبها اللجنة الدستورية وكذلك تشكيلتها تدعو للريبة والحذر عند أوساط واسعة في المجتمع السوري تطمح لإنهاء الحرب وسلوك طريق التغيير الديمقراطي السلمي الذي لا يلغي ولا يقصي أحد وبناء دولة الحق والعدل والقانون. فمن حيث الإقرار فهي أقرت في مؤتمر لم يتمثل فيه الشعب السوري كله ولا خياراته كلها، كما لا يمكن وصفه بمؤتمر حوار وطني، إنما انعقد في حينه بإرادة روسية ولهدف تفعيل مساق أستانا. ومن حيث تشكيلة اللجنة فإن تثليثها يعبر عن رغبة الدول الراعية الزام السوريين باعتماد نظام محاصصة طائفية شبيه بلبنان، أو نظام محاصصة جيوسياسية شبيه بالعراق. وأظهرت طبيعة التشكيلة وتقسيماتها إبعاد خيارات وطنية مهمة عنها، مما يؤشر إلى الاتجاه العام لسلوك الدستور السوري القادم الذي ستعتمده هذه اللجنة وفلسفته. وهنا تصح، برأيي، الإشارة إلى بعض القوانين التي جرى تعديلها مؤخراً وتوضح هذا السلوك وهذه الفلسفة (قانون الأوقاف وقانون الأحوال الشخصية).
توجد تقاليد عالمية في مجال الدسترة، فالدستور كعقد اجتماعي لا يفرض من الخارج، وإن حصل فإنه لن يساهم في استقرار البلد وتطوره، إنما قد يأخذ البلاد إلى المكان الذي يتجدد فيه الصراع الداخلي وربما يتخذ أشكال أخرى وتحالفات أخرى وأعباء إضافية أخرى. إن الدستور فعل وطني ـ سيادي بامتياز يجب أن تتمثل فيه كافة مكونات وخيارات الشعب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأثنية والأهلية والمدنية والثقافية والفكرية والفنية والتقنية .. من خلال جمعية تأسيسية تمثيلية واسعة، وفي حالات الحرب الأهلية أو الداخلية يفضل أن تكون الجمعية أحد منتجات حوار وطني مستقل ومسؤول، وأن يتميز أعضاؤها بالكفاءة والنزاهة والمسؤولية والاستقلالية والتخصصية والمصداقية الوطنية، وبالتالي فإن التشكيلة المعروضة في بورصة اليوم تفتقد لكل هذه المعايير أو معظمها وبخاصة معيار الاستقلالية.
إذن، هذه اللجنة تفتقد للشرعية القانونية وللشرعية الأخلاقية وللشرعية السياسية لأنها لم تتشكل وفق القواعد القانونية ولا وفق الطرق والمعايير الدولية المتعارف عليها، ولم تعبر قط عن إرادة شعبية أو وطنية لأنها لم تأتِ باستفتاء ديمقراطي ولا بحوار وطني، وبالتالي يخشى أن تقود نتائجها إلى ما لا تحمد عقباه.
تبنت القوى الممثلة للإدارة الذاتية شرقي الفرات خياراً سياسياً خاصاً بها، ربما فرضه واقع تحالفها مع الأمريكي ضد داعش، ولكن التمسك بهذا الخيار وتقديمه كنموذج دستوري لعموم سوريا جعل تركيا تتوجس من احتمال قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية، وبالتالي كان واضحاً أن هذا الخيار إذا ابتعد عن الخيارات الوطنية الديمقراطية يتفرد عنها ومن ثم تنفرد به القوى الاقليمية والدولية كما انفردت بخيارات النظام والمعارضة. إن تشدد تركيا في أستانا على عدم مشاركة مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) الراعي السياسي للإدارة الذاتية وابعاده عن اللجنة الدستورية، هو أولاً من وجهة نظري جاء لمصلحته لأن مشاركته في لجنة دستورية ليس فيها مطابقة لأية مواصفة وطنية أو شرعية سوف يزيد من عزلته وطنياً، وثانياً، ربما من ضمن خياراته كان (مسد) يرغب في المشاركة من قبيل ترويج مشروعه في الإدارة الذاتية لربما يعتمد كنموذج دستوري لعموم سوريا. لكن قراءة المشهد السوري منذ إعلان ترامب سحب قواته من سوريا تشي بأن إدارة ترامب لزمت الموضوع السوري بالكامل لروسيا، أي لأطراف أستانا الموجودين على الأرض وفي الميدان، وفق خارطة الطريق التي أشرت إليها آنفاً، وبالتالي يصبح من الطبيعي، ضمن هذا السياق، إبعاد الإدارة الذاتية عن تشكيلة اللجنة الدستورية. ولكن في الوقت ذاته تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية من ضمن خيارات دول أستانا الدستورية، فرض خيارات حليفها (مسد) من خارج اللجنة الدستورية.
إلا أنه من مصلحة مجلس سوريا الديمقراطية وكل القوى السياسية الديمقراطية في منطقة الإدارة الذاتية تفعيل الخيار الديمقراطي العلماني الوطني في مواجهة خيار المحاصصة، الذي ربما سيرسخ أركانه السياسية والدينية الدستور المفروض دولياً على السوريين، وذلك من خلال دعوة طيف واسع من القوى والتيارات والشخصيات العلمانية إلى الحوار السوري ـ السوري ، الذي دائما يتبناه ويدعو إليه، من أجل وضع خارطة طريق لمواجهة أية خيارات خارجية لا تحل المسألة السورية إنما قد تزيدها تعقيداً. وهذا يتطلب منه الرهان على الخيارات الوطنية في الشعب السوري وليس استمرار المراهنة على الأمريكي الذي يمكن أن يبيعه في أية صفقة مربحة مع التركي أو الروسي.
إن الحوار الوطني على قاعدة المساواة وتكافؤ الفرص هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنها إنتاج حلول وطنية يجسدها دستور دائم يعده السوريون وفق القواعد القانونية الراسخة والمعايير الدولية المتعارف عليها، وليس مجرد طبخة بحص تطبخ في موسكو وأنقرة وطهران، لا ينال السوريون منها سوى مراجعة عيادة الأسنان لترميم أسنانهم المكسرة.
د. مهيب صالحة – كاتب وأكاديمي سوري – أوغاريت بوست