راشد الغنوشي فقد ثقة قطاع عريض من قيادات وكوادر حركة النهضة.
اللاعب الأول في تونس منذ عام 2011
ماذا يمكن للدكتاتورية أن تعني إلا الاستبداد بالسلطة على فشل؟ وماذا يمكن لازدواجية المعايير أن تعني غير أن تحل لنفسك ما تحرمه على غيرك؟
لقد مَنعَ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة في تونس انعقاد مجلس شورتها، لأنه بات يعرف أنه فقد ثقة قطاع عريض من قيادات وكوادر الحركة.
وبينما هو يتهم الرئيس قيس سعيد بالدكتاتورية، فإن من ثابت سلوكيات الإسلام السياسي أنه لا ينظر في موطئ قدميه. فالأصل أنه يحكم بالنيابة عن الله، وتلك وكالة حصرية، ليس مأذونا بها لأحد. والآخرون كفرة، حتى يدينون له بالولاء. وبينما يستنكر على الناس أخطاءهم، فإنه يوفر التبرير لخطاياه، ويظل قادته في غير بلد ومكان، يزعمون الطهر حتى تكشف الأيام ما يرفلون به من نعيم الفساد. والمال الذي بين أيديهم حلال، حتى ولو جاء من مصادر يُجرمها القانون.
والغنوشي يمارس أدواره كأصل من أصول “اللعب على الحبلين” يكاد لا يضارعه فيه أحد. فهو يُظهر “الاعتدال” ويُبطن غيره، ويزعم الديمقراطية بينما هو يستبد بمنصبه برغم الفشل. ويدير شؤون البرلمان ليس ليمثل مؤسسة من مؤسسات الديمقراطية، وإنما لكي يتدبر تحالفات فساد ومؤامرات تمكين. وأمضى معظم أوقات قيادته للبرلمان ليس للدفاع عن مصالح تونس وإنما للدفاع عن مصالح داعميه الخارجيين. وبرغم أن حزبه حزب أقلية في النهاية، إلا أنه يستبد بما يريد لأنه حصل على مقاعد أكثر من غيره. ويزعم أنه حزب وطني من دون أن يلاحظ أنه امتداد لمشروع خارجي لا علاقة له بالوطنية من الأساس.
الغنوشي هو اللاعب الأول في تونس منذ العام 2011 والبلاد تنحدر من فشل إلى فشل من دون أن يُسائل هذا اللاعب نفسه عن مسؤوليته في النتائج الكارثية التي بلغتها البلاد
ولقد فاض الكيل بالفشل حتى خرج العشرات من كوادر التنظيم وقياداته للمطالبة بإقالة الغنوشي. فما كان من صاحب المكيالين، إلا أن منع انعقاد مجلس الشورى لكي لا يُسائله أحد عما يفعل ولكي لا يُحاسب على الفشل الذي قاد البلاد إلى حافة الهاوية.
وثمة فوضى ما كان يبدو لها من آخر. فالتحقيقات حول وجود “جهاز سري” لم تبلغ نهايتها واليوم يوقف ويساءل القاضي الذي كان مكلفا بقضايا الإرهاب وأسرار اغتيال محمد البراهمي وشكري بلعيد. وتحركت الدولة لتنفيذ أحكام قضائية بحق نواب. وبيئة الفساد التي تركت للأحزاب السياسية أن ترتع في البرلمان وتعطل الدولة بصراعات لا يزال التونسي يتساءل عن مبرراتها، تحاصر وتستهدف بقضايا فساد. وبينما يتحدث الرئيس سعيد عن سرقة المليارات من أموال الشعب التونسي، فإن السؤال الذي يثيره الناس هو: كم هي حصة السياسيين الفاسدين من هذا المال؟ وماذا فعلوا لكي يحصلوا عليه؟ وهل يقومون برده، أم أنهم سيهربون به إلى غير رجعة؟
و”الديمقراطية” كما لم يعد يخفى على أحد، ليست بضاعة من بضائع فكر الإسلام السياسي. إنها بحسب أفضل تعريف لها قدمه أحد قادة الإخوان في مصر يقول “الديمقراطية سُلّم، نرتقي به إلى السلطة ثم نركله”. سوى أن الغنوشي ركلَ السُلّم وركل معه تونس.
والغنوشي هو اللاعب الأول في تونس منذ العام 2011. وها هي عشر سنوات تمضي والبلاد تنحدر من فشل إلى فشل، من دون أن يُسائل هذا اللاعب نفسه عن مسؤوليته في النتائج الكارثية التي بلغتها البلاد. ولقد ظل يقيم الحكومات ويُقعدها بحسب ما يرى لنفسه من مصالح. وكلما ضاقت به الأحوال، تدبرَ تحالفات ومؤامرات وتسويات، من قاع الخيارات أحيانا، لكي تُبقيه في القمة كلاعب أول.
هذا “الديمقراطي” المزيف لم يترك فرصة للتحريض ضد بلاده، وليس ضد إجراءات الرئيس سعيد، إلا وانتهزها. فمقابلاته الصحافية مع المراسلين الأوروبيين لا تتوقف عند وصف الإجراءات المؤقتة بأنها “انقلاب”، ولكنها تثير الذعر من موجات المهاجرين التونسيين.
”الديمقراطية” كما لم يعد يخفى على أحد، ليست بضاعة من بضائع فكر الإسلام السياسي. إنها بحسب أفضل تعريف لها قدمه أحد قادة الإخوان في مصر يقول “الديمقراطية سُلّم، نرتقي به إلى السلطة ثم نركله”.
وحيث أنه ليس من ذلك النوع الذي يُسائل نفسه، فإنه لا ينظر في مسؤوليته عما آلت إليه البلاد بما صار يدفع بالتونسيين إلى الهجرة. كما لا ينظر في مرجعياته الفكرية التي تغذي التطرف. والصحافيون الأوروبيون لم تبلغ بهم الكفاءة لكي يقولوا له: دقيقة من فضلك، ألست أنت اللاعب الأول في هذه البلاد التي تهددنا بمجيء موجات المهاجرين منها؟ ولماذا يهرب الناس من بلد أنت من ظل يتحكم بحكوماته على امتداد عشر سنوات؟
ولقد بث الرئيس سعيّد بإجراءاته من الأمل ما أعاد مناجم الفوسفات إلى العمل بعد سنة من توقفها، ولم تحدث أعمال عنف، ولا وقعت فوضى، ولا اضطربت الأسواق والأسعار، وتقاطرت المساعدات لإخراج البلاد من أزمتها الصحية، ولم تخرج موجات مهاجرين.
يعرف الغنوشي، كما يعرف كل تونسي، أنه وكل حزبه معه لم يفز إلا بنحو خمس أصوات الناخبين، بكل ما كرسه لخدمة حملته.
وثمة شبهات معلنة الآن، بأن الانتخابات البرلمانية الأخيرة غرقت بتمويلات غير مشروعة من الخارج. بينما فاز الرئيس سعيّد بأصوات ثلاثة أرباع الناخبين، من دون تمويل، ورفض حتى ما تمنحه الدولة، وقاد حملته مشيا على الأقدام في كل مكان ذهب إليه، ولم ترافقه جوقة مزمرين ولا مُطبّلين، ولم يقف وراءه حزب. وبدا، على طول الخط، وحيدا. ولولا ضغوط وتكاليف الحراسة، ما كان ليرغب أصلا أن يعيش في قصر الرئاسة.
فإذا كان للشرعية الديمقراطية أي معنى، فإنها لا تستطيع حتى أن تضع الغنوشي وسعيد على كفتي ميزان، ولا أن تقارن بين الاثنين. فالرئيس سعيّد يريد إنقاذ البلاد مما وصلت إليه، ومنصبه مصان في نفوس التونسيين، وهو إنما اتخذ إجراءاته لأنه يُسائل نفسه، بل يُحاسبها، عما تفعل وعما لا تفعل. لا كذلك الذي يقود الخراب ويحسب أنه بريء.
ولكن المزيف مزيف، والمستبد على فشل لا بد وأن يفضح نفسه. وهو معروف لحزبه، ليس بأقل مما يعرفه التونسيون. وعندما ارتفعت الدعوات لإقالته، فقد أصبح حلالا له أن يلغي انعقاد مجلس شورى حزبه، بينما حرام على الرئيس سعيّد أن يُجمد برلمان الفوضى التي يقودها الغنوشي.
حالنا مع ازدواجية معايير الغنوشي مثل الحال مع ذلك الشيخ الذي يظل ينذر الناس بالويل والثبور إذا لم ترتدِ نساؤهم الحجاب، فلمّا قيل له: يا شيخ ابنتك لا ترتدي إلا تنورة قصيرة، قال: حرية رأي.
علي الصراف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة