مصر تعرف أن مشروع إيران غير مربوط بسقف زمني، ولا يتوقف عند حدود معينة، ويمكن أن يصيب القاهرة في المستقبل.
مخلفات صاروخ إيراني في إسرائيل
تهتم غالبية دول المنطقة بمصير المواجهة بين إيران وإسرائيل بعد أن اتخذت شكلا عسكريا غير مألوف عبر توجيه صواريخ ومسيّرات مباشرة على أراضي الطرف الآخر، وخرج الصراع بينهما عن قواعد الاشتباك المتعارف عليها منذ فترة، وقد يجرّهما إلى مواجهات تؤدي إلى تصاعد حدة التوترات في المنطقة.
وكانت مصر في مقدمة الدول التي حذرت من انحراف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عن مسارها التقليدي وتحولها إلى فوضى إقليمية، وعندما حدثت الضربات المتبادلة بين طهران وتل أبيب أعادت القاهرة تحذيرها من مغبة هذا التطور على المنطقة، والذي قد يقودها إلى حرب شاملة، ما لم يضبط كل جانب تصرفاته العسكرية ويدرك أن الخسارة سوف تطال مصالحهما، ومصالح قوى إقليمية ودولية عديدة.
ويتسق التوجه المصري من المناوشات بين إيران وإسرائيل مع الخطاب الظاهر الذي تتبناه القاهرة كعنصر مهم للأمن والاستقرار في منطقة معرضة لتوسيع نطاق التفكك في أواصر دولها بعد أن أوصلتها حرب غزة إلى حافة الهاوية، ويتسق مع تأكيد أن مصر دولة غير منحازة ومعنية بصورة رئيسية بالدفاع عن أمنها القومي، لكن هذا لا يمنع أن استنزاف القدرات العسكرية لكل من إيران وإسرائيل يصب في مصلحتها.
ولم تعلن القاهرة عن مشروع إقليمي تتبناه في هذه المرحلة، بحكم استمرار تركيزها على ترتيب الأوضاع الداخلية والبحث عن إيجاد حل للأزمة الاقتصادية، وتقويض التحديات الخارجية التي تواجهها في أكثر من مربع إستراتيجي قريب، ويعد اهتمامها بما يجري بين إيران وإسرائيل في صميم هذه التحديات ومآلاتها البعيدة، لأن انعكاساته ستكون مباشرة على بعض القضايا المحورية المعنية بها.
◙ القاهرة تعلم أن مشروع إسرائيل الخاص بتعميم التطبيع إقليميا يؤدي إلى تمكين تل أبيب من التحكم في مفاصل المنطقة
◙ القاهرة تعلم أن مشروع إسرائيل الخاص بتعميم التطبيع إقليميا يؤدي إلى تمكين تل أبيب من التحكم في مفاصل المنطقة
وتحتفظ مصر بعلاقات هادئة مع البلدين، وعلى الرغم من التباين معهما في عدد من الملفات الإقليمية، غير أنها حريصة على عدم الاشتباك السياسي إلا في حدود ضيقة، وربما تكون هذه المسألة تلاشت أو توارت مؤخرا مع إيران عقب التحسن في العلاقات معها، لكنها ملحوظة مع إسرائيل بعد شنها حربا ضارية على غزة ووجود نقاط تماس أمنية وسياسية قاتمة مع القاهرة، أدت بالثانية إلى إبداء رفضها للكثير من التصرفات والتوجهات التي أفرزتها الحرب، وأكدت أن أهداف إسرائيل لن تسلم منها مصر.
وتملك إيران مشروعا يعتمد على المزيد من التمدد في المنطقة العربية منذ سنوات، وأبدت مصر معارضتها طويلا له، لكن منذ تحسن العلاقات بينهما لم تتحدث القاهرة علنا عن رفض أو ممانعة تقودها إلى صدام مع طهران، وحرصت الأخيرة على عدم المساس بمصالح الأولى حتى الآن، ونجحت في تطمينها من خلال رسائل تفيد عدم اقتراب أذرعها في المنطقة بما يحرجها أو يدفعها للتخلي عن هدوئها مع إيران.
وتجيد طهران توظيف أدواتها وعلاقاتها بقوى متعددة، وتحرص على عدم تكتيل خصومها في وقت واحد، وبدت مواجهتها مع إسرائيل محسوبة سلفا، لأن التطور الذي حدث في علاقات إيران بالسعودية ومصر مؤخرا لم يكن صدفة، ولعل تخيّل وقوع الأزمة الراهنة في خضم توتر معهما يكفي لمعرفة النتيجة التي كانت ستبدو عليها طهران، وأبرز معالمها وضع السعودية ومصر في كفة إسرائيل ضمنيا.
وتشير المعالم الراهنة للأزمة بين إيران وإسرائيل إلى نأي الرياض والقاهرة عن الدخول في قلب تفاصيلها، مع رفض منهج التصعيد بينهما من دون إدانة مباشرة لأحدهما، وهي مساحة رمادية جيدة للقاهرة (والرياض أيضا) تساعدها على التصرف بحكمة، وتؤكد للقوى الدولية أن وضع مصير المنطقة بين فكي طهران وتل أبيب سوف يفضي بها إلى زيادة التدهور والانفلات، ومن الضروري أن تكون هناك قوة يعول عليها دوليا في منع تدحرج المنطقة إلى سيناريو الفوضى.
كشفت المواجهة بين إيران وإسرائيل عن أهمية هذا المحدد، والذي تريد مصر تسويقه، لأن أهداف مشروع كل منهما لا تطربها، بل تؤثر على مصالحها سلبا، والهدوء مع إيران لا يعني القبول بما تريده تحقيقه في المنطقة من أطماع، لأن المعادلة النهائية للهدوء بين القاهرة وطهران يصعب أن تؤدي إلى نتيجة إيجابية لكيهما، لوجود تباعد هيكلي في التوجهات العقائدية التي تحملها الثانية.
◙ التوجه المصري من المناوشات بين إيران وإسرائيل يتسق مع الخطاب الظاهر الذي تتبناه القاهرة كعنصر مهم للأمن والاستقرار في منطقة معرضة لتوسيع نطاق التفكك
كما أن الخلافات التي ظهرت بين القاهرة وتل أبيب لا تعني اتساع الهوة بينهما أو الدخول في مرحلة صعبة من التصعيد، فالولايات المتحدة واحدة من الدول التي لديها قدرة كبيرة على ضبط الدفة بين مصر وإسرائيل، وعدم السماح بانحراف الدفة بين مصر وإيران بما يجعل القاهرة بعيدة عن واشنطن أو قابعة في معسكر مناوئ لها.
فلدى كل طرف من أطراف معادلة مصر – إيران – إسرائيل هامش يتحرك بموجبه نحو الآخر، سلبا أو إيجابا، دون أن يخل بالتوازن الأساسي وهو أن القاهرة من العواصم المهمة بالنسبة إلى واشنطن التي لن تتركها تقترب كثيرا من طهران، وهو ما تعلمه القيادة المصرية التي لا تميل بطبعها للسلوك الإيراني، إلا أن المعطيات الإقليمية الحرجة تفرض توجها معينا عبر امتلاك أدوات للمناورة والمساومة، أو الضغط والتأثير.
وتعلم مصر أن مشروع إيران طموح وغير مربوط بسقف زمني، ولا يتوقف عند حدود معينة، ويمكن أن يصيب القاهرة في المستقبل عندما تتأكد طهران أنها عائق أمامها، كما تعلم مصر أن مشروع إسرائيل الخاص بتعميم التطبيع مع الدول العربية يؤدي إلى تمكين تل أبيب من التحكم في مفاصل المنطقة، وقد يزيل الفوارق التاريخية والجغرافية بين الدول، ويعاد توزيع الأدوار بناء على منظومة قيم أخرى.
وتتعدد حسابات مصر في المواجهة بين إيران وإسرائيل، وتلتقي عند نقطة مهمة وهي أنها غير مستفيدة من بلوغها الذروة وانتقالها إلى حرب مباشرة لتكسير العظام، ولن تجني مكاسب من خلط أوراق المنطقة أكثر من اللازم، وقد تكون مستفيدة إستراتيجيا من الصدام بينهما في نطاق معين، لأن المواءمات الخفية بين إيران وإسرائيل، والتي ظهرت معالمها في سنوات سابقة، قسمت المنطقة بينهما، وقيّدت أيّ تحرك مصري نحو تكوين شبكة أمان من بعض الدول العربية.
وتستطيع القاهرة توظيف عملية شد الخيوط بين طهران وتل أبيب لو امتلكت مشروعا إقليميا يمكّنها من ترميم دورها في المنطقة أو الإعلان عن تصور واضح يساعدها على التأثير بقوة في التطورات، لأن مسألة صانعة السلام، وضابطة إيقاع المنطقة سياسيا، أو القوة الوسطية الكبيرة، هي من قبيل العبارات المطاطة التي لن تمكّن مصر من توجيه الأوضاع بالصورة التي تحقق مصالحها الإستراتيجية.
وتدّعي كل دول العالم تقريبا أنها مع السلام ومعتدلة ولكن ليست كلها تملك المشروع والفعل والتأثير والطموح، وإذا امتلكت مصر ذلك وأعلنت عنه من خلال تحركاتها، فهذه هي النواة التي ينطلق منها الدور، بدلا من أن ترهق الدولة المصرية مقدّراتها في مواءمات بين قوى إقليمية متباينة قد تكون أول من يتم الانقضاض عليها.
محمد أبوالفضل – كاتب مصري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة