النظام المصري يوازن بين الأمن القومي للدولة والتزاماته الفلسطينية ونجح في التعاطي مع الحرب وروافدها الإقليمية برشادة.
مصر نجحت في إدارة أزمة معبر رفح رغم الانتقادات
تخيّل البعض من المصريين أن الحرب الشرسة على قطاع غزة جرت وجماعة الإخوان لا تزال في السلطة بالقاهرة، ووضع هؤلاء سيناريوهات محتملة للتعامل المصري الرسمي مع الحرب التي تشنها إسرائيل وارتداداتها الإقليمية، أبرزها أن بلدهم كان سيدفع ثمنا غاليا لتغليب المصالح العقائدية على الوطنية، بعد أن يقف في خندق واحد مع حركة حماس التي اتخذت قرار الحرب من دون التنسيق مع أحد أو دراسة عواقبها الدقيقة والبعيدة، فالاندفاعة السياسية الإخوانية وقتها كان يمكن أن تهدم ما تبقى من أمن واستقرار، طبعا إذا قدّر للجماعة أن تصمد عشر سنوات في الحكم.
فالنظام المصري يوازن بين الأمن القومي للدولة والتزاماته الفلسطينية، ونجح في التعاطي مع الحرب وروافدها الإقليمية برشادة، وبصورة جنبت البلد خسائر فادحة، كانت يمكن أن تحدث لو أن الإخوان استمروا في السلطة فترة طويلة، أو أن ذيول الجماعة من القوى الإسلامية وحلفاءها نجحوا في الحفاظ على قوّتهم المسلحة في سيناء ولم يستطع الجيش المصري تقويض وجودهم في منطقة ملاصقة لغزة.
وجففت الأجهزة الأمنية منابع القوى الشاردة، ووضعت قواعد صارمة في سيناء على مدار السنوات الماضية، وأكدت أن سيناريو الحرب الواسعة على غزة لم يكن بعيدا عن تقديراتها وجاهزيتها كانت حاضرة، وهو ما يصعّب توقع نتائجه لو أن القيادة السياسية في يد الإخوان التي تعتبر حماس جزءا منها وعليها دعمها ظالمة أو مظلومة.
ولعل موقف الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي من الثورة السورية قبل سقوطه بفترة قصيرة هو دليل على طبيعة التصورات التي تحكم عقل الجماعة والمنتمين لها، إذ أعلن الرجل على الملأ عزمه إرسال قوات لمحاربة الجيش السوري في عقر داره. وهي نوعية من الأفكار كان يمكن أن تزج بالدولة المصرية كلها لو أن هذا العقل لا زال مستمرا والحرب الإسرائيلية على غزة تطرق أبواب الحدود المصرية.
الكثيرون لا يلتفتون إلى خطاب مُلهم الإخوان أردوغان، فقد باعهم عند أول منعطف سياسي واجهه، وأعاد علاقاته مع مصر
◙ الكثيرون لا يلتفتون إلى خطاب مُلهم الإخوان أردوغان، فقد باعهم عند أول منعطف سياسي واجهه، وأعاد علاقاته مع مصر
ونجت القاهرة من فخاخ الإخوان التي كادت تدمر هوية الدولة، ولم يعد أحد ينتمي للجماعة أو يتعاطف معها يردد قصة أنهم لم يمنحوا فرصة في الحكم، أو أن مشروعهم المعروف بـ”النهضة” قضي عليه مبكرا، فقد قدمت عملية طوفان الأقصى برهانا على توجهات القوى الإسلامية الجامحة في التعامل مع المعطيات الإقليمية المعقدة، والتي تحتاج إلى دراسة متأنية، فمن يدخل غمار حرب مع إسرائيل عليه معرفة أبعادها، فالدعم الغربي الذي قدم لإسرائيل بعد عملية السابع من أكتوبر لم تشهد له مثيلا.
وتأكدت أهمية الخطوات التي قام بها المصريون ونظامهم للتخلص من حكم الإخوان مع تراكم النكسات السياسية التي واجهتها الجماعة في السودان والمغرب، وتعززت مع انهيار مشروعهم في تونس، والعراقيل التي يواجهونها في ليبيا ودول أخرى، وكلها مشاهد تعني أن القاهرة قرأت مبكرا المصير الذي يمكن أن تواجهه الدولة لو أن السلطة بقيت في حوزة هذه الجماعة مدة طويلة.
وخرجت المسألة من إطار الدعاية الوردية التي جرى الترويج لها من قبل الإخوان إلى إطار الواقع العملي القاتم، فالنتيجة تأتي دائما من جنس العمل وليس في حاجة إلى الدخول في اختبارات للتيقن من طبيعتها، وهو الدرس الذي قدمته حماس لمصريين رأوا أن الإخوان لم يحصلوا على فرصتهم في السلطة وكان بوسعهم النجاح، فحكم دولة كبيرة يحتاج إلى مؤهلات معينة، تزداد مروحتها الإستراتيجية في خضم تصاعد التحديات.
فلم يعد الكثيرون يلتفتون إلى خطاب مُلهم الإخوان وخليفة المسلمين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فقد باعهم عند أول منعطف سياسي واجهه، وأعاد علاقاته مع مصر بعد أن وصف نظامها بكل الصفات السلبية، وطور علاقاته مع السعودية والإمارات، وهما مع مصر في طليعة الدول التي تبنت مواقف صارمة ضد تيار الإسلام السياسي، وأصبح نظامه يتعرض لعراقيل كبيرة، ظهرت ملامحها في خسارته انتخابات البلديات الأخيرة، وباتت مؤشرا على ما ينتظره في المستقبل القريب.
◙ النظام المصري حقق نصرا بلا حرب على جماعة الإخوان وفلولها في المنطقة في الفترة الماضية، وأكد أن رؤيته المبكرة في التعامل معها كانت صائبة
وخيّب ظنون من عولوا عليه في دعم حركة حماس، وكان أول من وقف اقتصاديا مع إسرائيل بعد اندلاع الحرب، وعندما حجب تصدير بعض السلع إليها مؤخرا، كان قد خسر معركته سياسيا، وفهمت الخطوة على أنها رد فعل على رفض إسرائيل إنزال مساعدات تركية مباشرة على غزة، وليس انتقاما لما يتعرض له القطاع من حرب إبادة جماعية تقوم بها قوات الاحتلال.
ناهيك عن أن قطر التي كانت في طليعة داعمي الإخوان، أعادت علاقاتها مع القاهرة وأصبحت تواجه انتقادات بسبب هذا الدعم، وتحت ضغوط غربية وإسرائيلية عديدة اضطرت للاعتراف بأن احتضانها لقيادات حماس، وبالطبع كوادر الجماعة الأم في مصر، جاء بأوامر أميركية، وأنها تلعب دورا سياسيا مرسوما لها مسبقا.
وحقق النظام المصري نصرا بلا حرب على جماعة الإخوان وفلولها في المنطقة في الفترة الماضية، وأكد أن رؤيته المبكرة في التعامل معها كانت صائبة، والاتهامات التي وجهت إليه من جهات متباينة ثبت خطؤها، وكان الغرض منها ثنيه عن المضي قدما في طريق إنهاء وجود الجماعة أمنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، لتتمكن من العودة مرة أخرى إلى دائرة الضوء والسلطة عندما تسنح فرصة لذلك.
وتشير الضربات التي تعرّضت لها الجماعة في دول عدة إلى أن وقوفها على قدميها يحتاج وقتا طويلا وجهدا مضنيا، فالإنهاك الذي طال جسدها بسبب عدم دقة حساباتها يجعلها على هامش القوى المؤثرة خلال الفترة المقبلة، فحرب غزة سوف تقلص التعاطف الذي تحظى به حركة حماس، لأن عمليتها في أكتوبر الماضي وما أدّت إليه من تصرف جنوني قامت به إسرائيل هما المسؤولان عما حلّ من دمار في القطاع.
وقد يكون هذا التصرف أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية، لكن كانت هناك بدائل أخرى أقل كلفة تقود إلى هذا الهدف ولم يتم التفكير فيها، وأيّ نتيجة سياسية تحرزها لن تكون حماس طرفا فاعلا فيها، فلم تعد الكثير من القوى الإقليمية والدولية معنية بمشاركتها، بل على العكس يوجد تصميم على تهميشها، وهي حصيلة تفضي إليها دوما التصرفات التي تنطلق من أساس عقائدي لا يراعي جوهر القضايا التي يلامسها.
النظام المصري أُنصف في معركته الشرسة مع الإخوان منذ سنوات، وتضاعف الإنصاف مع العثرات التي تواجهها قوى تدور في فلك الجماعة، فقد خسرت ما تشدقت به من قدرة على التكيف مع المعطيات وتخطي المنحدرات، فقد سقطت في غالبية المحكات التي مرت بها، وخسرت الكثير من أرصدتها التي راكمتها عبر عقود، وأصبحت في حاجة إلى سنوات طويلة لإعادة ترتيب أوراقها والعودة إلى ما كانت عليه.
محمد أبوالفضل – كاتب مصري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة