بانتظار الكشف عن الأرقام التي سترصد في استثمارات تعيد بعث اقتصاديات الدول الأفريقية يبقى “مسار روما” بداية مسار إستراتيجي ولكن على الورق فقط ويبقى البحر المتوسط “مسرح موت” لمن يحاولون العبور.
الدوريات المدججة لم تنفع في وقف “قوارب الموت”
لمعالجة المرض أول ما يجب عمله هو معرفة السبب، فلماذا نعيد اختراع العجلة؟
لم تتوقف الدول الأوروبية المعنية بظاهرة الهجرة (غير النظامية)، التي تتدفق على السواحل الشمالية لأوروبا، ولو لحظات للتساؤل: لماذا يغامر شباب ونساء وأطفال، وأحيانا طاعنون بالسن بحياتهم لعبور البحر المتوسط في قوارب غالبا ما تكون مهترئة، معرضين حياتهم للمخاطر، بعد أن اجتازوا صحراء قاحلة ليصلوا إلى شواطئ تونس وليبيا، وينتهوا بين أيدي عصابات إجرامية تتاجر بحياتهم وآلامهم؟
ما هو الدافع لخوض تلك المخاطرة، ومن أي شيء يفرون؟
الرئيس التونسي قيس سعيد سبق الجميع إلى طرح السؤال، رافضا المقاربة الأمنية التي تبنتها الدول الأوروبية، لتكتشف بمرور الوقت أنها مقاربة عبثية إذا ما تم الاعتماد عليها وحدها.
لم تنفع الدوريات المدججة في وقف “قوارب الحرقة”، وكان الأصح أن تسمى “قوارب الموت”، وهو ما تؤكده الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة..
◙ الحاجة إلى مهاجرين أكدتها أيضا رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، فهي ترى أن فتح طرق جديدة قانونية بين القارتين يمكن أن يؤدي إلى توفير بديل حقيقي وآمن لرحلات البحر الخطرة
أكثر من مئة ألف مهاجر وصلوا أوروبا في الأشهر الستة الأولى من عام 2023 عن طريق البحر، انطلاقا من سواحل شمال أفريقيا وتركيا ولبنان، مقارنة بنحو 34 ألفا في الفترة نفسها العام الماضي.
ببساطة شديدة، المقاربة الأمنية فشلت، وانهارت بفشلها كل الاتهامات التي وجّهت إلى تونس جزافا. تونس بإمكانياتها المحدودة وحدودها الطويلة مع الدول الأفريقية، وقربها من شواطئ أوروبا، لا تستطيع أن تحمي نفسها وتحمي شواطئ الاتحاد الأوروبي من تدفق المهاجرين.
حاول البعض توجيه اتهامات للرئيس التونسي بالعنصرية، وسارعت منظمات مدنية إلى تبني هذه الاتهامات، دون أن تتوقف قليلا للتفكير بصحتها.
الجهات الأوروبية التي فبركت الاتهامات كانت تأمل أن تزرع الخوف في قلوب المسؤولين في الحكومة التونسية والتونسيين، ليسارعوا إلى عسكرة بلادهم، وملء شواطئها بحرس الحدود، والقيام بمهمة شرطي لوقف تدفقات المهاجرين.
ولكن هيهات، لم تنطل الحيلة على التونسيين الذين التفوا حول الرئيس قيس سعيد. لا أحد يستطيع أن يلقّن تونس درسا في الإنسانية وحماية المستضعفين. والأهم لا أحد يستطيع المزايدة على تونس عندما يكون الحديث عن العنصرية.
المؤتمر الذي حضره ممثلو 21 دولة، ومنظمات دولية بينها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، واستضافته رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، كان بطلب من الرئيس التونسي.. هناك وقف أما الجميع ليؤكد قناعاته بضرورة “وضع حد لظاهرة الهجرة غير الإنسانية، والقضاء على أسبابها العميقة، والتصدي للشبكات الإجرامية التي تقف وراءها وتتاجر بالبشر وبأعضاء البشر”.
تونس “التي ألغت العبودية منذ سنة 1874 لا يمكن أن تقبل بعودة الاسترقاق من خلال الهجرة غير النظامية.. ولن تقبل بالتوطين المبطن للمهاجرين غير النظاميين ولن تكون ممرا أو مستقرا للخارجين عن القانون”.
معالجة الهجرة غير النظامية “لا تتم بصفة منفردة ولا بواسطة اتفاقيات ثنائية”، المطلوب من الجميع “البحث عن الحلول بعد تحديد الدوافع والأسباب”.
موقف الرئيس التونسي الواضح والصريح جاء متوافقا مع موقف ميلوني التي اختارت أن تطلق على المؤتمر اسم “مسار روما”. وهو “حوار قائم على الاحترام المتبادل بين الأنداد، نظرا لعدم وجود علاقة تنافسية أو صراع بين أوروبا ومنطقة البحر المتوسط الأوسع، وفي الحقيقة مصالحنا قريبة أكثر مما نتصور”.
◙ الرئيس التونسي قيس سعيد سبق الجميع إلى طرح السؤال، رافضا المقاربة الأمنية التي تبنتها الدول الأوروبية، لتكتشف بمرور الوقت أنها مقاربة عبثية إذا ما تم الاعتماد عليها وحدها
وعن أهداف المؤتمر قالت ميلوني إن الهدف الأول إطلاق مشاريع في ستة قطاعات رئيسية هي الزراعة والطاقة والبنية التحتية والتعليم والمياه والصرف الصحي، مؤكدة حاجة إيطاليا وأوروبا إلى الهجرة، لكن لا يمكننا إعطاء إشارة بأن أولئك الذين يدخلون بشكل غير قانوني سيكافؤون، فالهجرة الجماعية غير الشرعية تلحق الضرر بالجميع، ومهربو البشر يتسلقون على حساب حياة الآخرين ويربحون منهم.
الحاجة إلى مهاجرين أكدتها أيضا رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، فهي ترى أن فتح طرق جديدة قانونية بين القارتين يمكن أن يؤدي إلى توفير بديل حقيقي وآمن لرحلات البحر الخطرة، وأن “مسار روما” يوفر فرصة جيدة للتعاون من أجل توحيد الجهود لصالح الجميع.
وعلى بعد خطوات من المجتمعين كان بابا الفاتيكان يلقي خطابا أمام الحضور بساحة القديس بطرس داعيا الحكومات الأوروبية والأفريقية إلى مساعدة المهاجرين العالقين في المناطق الصحراوية بشمال أفريقيا والتأكد من أن البحر المتوسط لن يصبح أبدا “مسرح موت” مرة أخرى لمن يحاولون العبور.
البحر الأبيض المتوسط يجب أن يكون مكانا للسلام والتقدم، وليس مقبرة لدفن الناس الساعين إلى حياة أفضل. وروما، كما جاء على لسان نائب رئيسة الوزراء الإيطالية أنطونيو تاجاني تريد أن تكون “مفترق طرق للحوار بين الشعوب”.
بانتظار الكشف عن الأرقام التي سترصد في استثمارات تعيد بعث اقتصاديات الدول الأفريقية، يبقى “مسار روما” بداية مسار إستراتيجي كما وصفته ميلوني، ولكن على الورق فقط. ويبقى البحر المتوسط “مسرح موت” لمن يحاولون العبور.
علي قاسم – كاتب سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة