من يعرف أوضاع السوريين في لبنان قبل العام 2011 سيعثر على مفارقة تحاول الحكومة اللبنانية استثمارها للضغط على المجتمع الدولي تتمثل في طبيعة العلاقة بين السوريين واللبنانيين وبين سوريا ولبنان.
لاجئون لا يشكلون أيّ تهديد قد يحسب له حساب
رغم التصريح الأخير لوزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام والذي قال فيه “لا يجوز أن نحمّل العامل السوري مسؤولية الانهيار الاقتصادي في البلاد، فهو يعمل ساعات أكثر مقابل أجر أقل، ما يجعل رب العمل يرغب بتوظيفه أكثر من غيره”، إلا أن الحكومة اللبنانية ماضية في التهجير العكسي للاجئين السوريين نحو سوريا، بعد أن قامت ميليشيات حزب الله بتنسيق مع جهات سورية بتجريفهم من مناطقهم قسراً ففرّوا إلى لبنان عبر الحدود.
قبل ذلك، وقبل مغادرة الرئيس اللبناني ميشال عون لفترته الرئاسية مخلفاً وراءه معضلة دستورية بإقالة الحكومة، الأمر الذي رفضه رئيسها نجيب ميقاتي، كان مدير الأمن العام اللبناني عباس إبراهيم يصوّر وضع اللاجئين السوريين في لبنان وكأنه قضية أمنية.
أمين سلام: لا يجوز أن نحمّل العامل السوري مسؤولية الانهيار الاقتصادي في البلاد
ورغم أن عباس كرّر مراراً أنه لن يتم إجبار أيّ من اللاجئين السوريين على مغادرة لبنان، إلا أن الكيفية التي يجب أن يطبّق فيها القرار الحكومي بترحيلهم لم تتضح بعد.
وبين الواجب الوطني والقومي، الذي يكثر عنه الحديث في لبنان، والمتجسّد في إعادة السوريين إلى بلادهم، يبقى السؤال قائماً عن استعداد الحكومة السورية لاستقبال مليوني سوري كانت إيران قد تنفّست الصعداء لمغادرتهم وباشرت بإحلال آخرين محلهم.
من يعرف أوضاع السوريين في لبنان قبل العام 2011 سيعثر على مفارقة تحاول الحكومة اللبنانية استثمارها للضغط على المجتمع الدولي، تتمثل في طبيعة العلاقة بين السوريين واللبنانيين وبين سوريا ولبنان، تلك العلاقة التي قامت في الأساس على اعتبار جزء من سوريا وطناً مستقلاً، كما يعرف الجميع، وتمت شرعنة المشيخات العشائرية والطائفية ومنحها هوية مختلفة عن هويتها السورية الأصلية. لكن ما الذي ترتّب على ذلك على أرض الواقع؟
في ظل كون غالبية النخب اللبنانية المتحكمة في الساحة السياسية والاقتصادية ذات أصول سورية، فإن الأمر يتجاوز حدود المصداقية إلى المتاجرة ببشر لديهم أقارب في لبنان وكل ما فعلوه أنهم انتقلوا إلى السكن بين أهاليهم، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعدّ أو تحصى، فحتى أعتى القائلين باللبنانية كانوا من اللاجئين السوريين إلى لبنان.
ويمكن الرجوع إلى أبحاث حديثة صدرت تورد ذلك موثقاً، فكيف يجب التعامل مع مثل هذه الحالة التي تحوّل فيها لاجئو الأمس إلى قياديين في لبنان الجديد يطالبون بطرد من سار على خطاهم هرباً من التهجير؟
دعك من هذا. الإشكالية التي ما تزال ماثلة أمام القرار اللبناني هي في الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية الحالية في سوريا ذاتها، ليس من ناحية أمن اللاجئين وحسب، بل من ناحية تقبّل عودتهم كفكرة.
لكنّ الأمر بدأ. وبالفعل عبرت الحدود اللبنانية – السورية أولى موجات العودة للاجئين قادمين من مخيم عرسال، بإشراف الأمن العام اللبناني، وفقاً للخطة التي تقول عنها الحكومة اللبنانية بأنها “خطة آمنة وطوعية”.
– بين الواجب الوطني والقومي، الذي يكثر عنه الحديث في لبنان، والمتجسّد في إعادة السوريين إلى بلادهم، يبقى السؤال قائماً عن استعداد الحكومة السورية لاستقبال مليوني سوري
الجديد هو الكشف عن أن هذه الخطة لم توضع اليوم، بل تم الاتفاق عليها في العام 2017، ثم توقّفت بسبب الجائحة، وتم إعلان المضي بها مجدداً مؤخراً.
وبدأت وسائل الإعلام الحكومية في سوريا بنشر معلومات تفصيلية عن هذه العودة للاجئين قالت إن 80 في المئة منهم هم من مناطق ريف دمشق، كالنبك والقلمون وقارة، مؤكدة أن السلطات في محافظة ريف دمشق “جهزت لهم معبرا لوجستيا مع سيارات الإسعاف، وعيادات متنقلة، إضافة إلى تأمين مراكز إيواء”.
الأمن اللبناني أعلن أن عدد العائدين في هذه الدفعة كان نحو 500 لاجئ من أصل أكثر من مليوني لاجئ، فإذا كان معدّل إعادتهم سيكون بهذا النسبة فكم سيستغرق تطبيق خطة لبنان هذه؟
وإذا لم يكن الهدف من هذه الخطة استعراضاً لابتزاز المؤسسات الدولية، فإن لبنان يواجه حالياً العديد من العقبات لتطبيقها، أولها أنه لم يتعامل أصلاً مع هؤلاء اللاجئين بصورة قانونية، ولم يمنح الكثيرين منهم صفة اللاجئ أو إقامة رسمية في حالات مماثلة، ولم يسمح لهم بالعمل، ولم يصرف لهم المبالغ المخصصة لهم من مفوضية اللاجئين.
حتى ربيع هذا العام كانت الحكومة اللبنانية تطالب بـ30 مليار دولار من المجتمع الدولي كتعويض عن استضافتها للاجئين السوريين، وفقاً للرقم الذي تقدّم به وزير الشؤون الاجتماعية هكتور حجّار إلى مؤتمر بروكسل الذي عقد بغرض جمع مساعدات ماليّة للاجئين السوريين في بلادهم وخارجها.
◘ مدير الأمن العام اللبناني عباس إبراهيم يصوّر وضع اللاجئين السوريين في لبنان وكأنه قضية أمنية
أزمات البنوك اللبنانية وقراراتها من جانب واحد في التحكم بسعر صرف الدولار، بخّرت، وحدها، أكثر من ربع مليار دولار من أموال اللاجئين السوريين، كانت قد استقبلتها كمساعدات إنسانية. ووفقاً لتقرير “الخطة الإقليمية للاجئين والصمود استجابة للأزمة السورية” فإن لبنان تلقى خلال الفترة بين العامين 2013 – 2021 قرابة 2.5 مليار، لم تنعكس على حياة اللاجئين السوريين على أراضيه.
وفيما ينتقد تقرير منظمة العفو الدولية الذي صدر منتصف أكتوبر الماضي، الخطة اللبنانية لترحيل اللاجئين السوريين، مستنداً إلى أن القانون الدولي يحظر على لبنان الإعادة القسرية للاجئين، وأن شرط العودة الطوعية ينبغي أن يستند إلى “موافقتهم الحرة والمستنيرة”، تحاول الحكومة السورية إخفاء ارتباكها أمام القرار اللبناني، وفي قراءة أخرى لعلها تريد استثمار هذا القرار للضغط من أجل الحصول على مكاسب أخرى سواء من الأمم المتحدة أو معارضي عودة هؤلاء إلى ديارهم.
ويبدو الانفتاح الأممي على سوريا، واللقاءات التي باتت أكثر علنية اليوم مع المسؤولين السوريين، كإشارة واضحة على ذلك، ما يمكّن النظام من استعادة المزيد من شرعيته “السياسية” من خلال ملف اللاجئين الإنساني وما يترتب عليه من التزامات مالية، بعيداً عن الوحي الروسي والإيراني هذه المرة.
وباستعراض طبيعة المرحّلين السوريين من لبنان، يتضح أن غالبيتهم من المسنّين والأطفال والنساء، وهؤلاء لن يتعرضوا على الأرجح للاضطهاد من أجهزة الأمن السوري، لأنهم لا يشكلون أيّ تهديد قد يحسب له حساب، وليست لديهم سجّلات أمنية إشكالية.
المؤسسات الأممية بوضعها الراهن، سيكون وقوعها في فخ من هذا النوع سهلاً للغاية، غير أن هذا لن يفيد لبنان بشيء، وإنما سيخدم دمشق، وما يمكن فهمه بصورة أوضح هو استمرار الأجهزة اللبنانية بالعمل وفقاً لصالح الإرادات السياسية في الإقليم. وليس من الصعب التنبؤ برد الفعل الإيراني على مثل هذا المسار، فوكيلها في لبنان مشغول بالوضع الجديد بعد ترسيم الحدود مع إسرائيل، أما الروس فلديهم ما يكفيهم من المتاعب في أوكرانيا وتبعات الحرب الاقتصادية والسياسية.
إبراهيم الجبين – كاتب سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة