على شاطئ مدينة أزمير التركية التي كانت تُعرف سابقًا باسم سميرنا حيث قُتل أكثر من 150 ألفًا من سكان المدينة من اليونانيين والأرمن وتم تهجير أكثر من 750 ألفًا على يد القوات التركية أثناء حرق المدينة في سبتمبر 1922، يقف تمثال الجنرال مصطفى كمال أتاتورك على ظهر خيل وهو يشير إلى جهة الغرب، ومنقوش على التمثال عبارة “أيها الجيش، هدفك الأول هو البحر الأبيض المتوسط. تقدم إلى الأمام!”.
تتجه واشنطن الآن إلى التعامل مع “العالم كما هو”، ولكن في محاولة كبح جماح حليف مارق مثل تركيا، لا تبذل كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سوى الحد الأدنى المطلوب لمواجهة أكبر تهديد للسلام والاستقرار في أوروبا وشرق المتوسط وشمال أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وفي مؤتمر ميونخ الأمني الأخير أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن “الولايات المتحدة عادت، وعاد معها التحالف عبر الأطلسي”، وأكد التزام الولايات المتحدة الكامل بحلف شمال الأطلسي ودبلوماسيته.
ومع ذلك يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو الزعيم الغربي الوحيد الذي لديه الشجاعة لمواجهة الخطر الواضح والقائم الذي تطرحه طموحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خارج حدود تركيا. لعبت فرنسا دورًا قياديًا في أوروبا بينما تواصل ألمانيا وبريطانيا تجنب ممارسة الحكم السليم واتخاذ الإجراءات المناسبة في المسائل الأمنية الأوروبية. وكان الرئيس الفرنسي ماكرون محقاً في قوله إن على أوروبا أن تتبنى “الحكم المستقل الإستراتيجي” وأن تأخذ قدرًا أكبر من ملكية مصالحها الأمنية خارج إطار حلف الناتو.
ومع اقتراب الذكرى المئوية الثانية للنضال من أجل التحرر من الحكم العثماني وأيضاً مع إحياء الديمقراطية في اليونان، تواصل حكومة أردوغان الاستبدادية ممارسة أعمال عدوانية ضد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلفاء الناتو وشركائه والمصالح الأميركية.
يقود أردوغان ثاني أكبر قوة عسكرية في الناتو. وتشكل قوته العسكرية التي يبلغ قوامها 435 ألف جندي ثلث حجم قوة الولايات المتحدة التي يبلغ قوامها 1.3 مليون جندي وضعف حجم فرنسا ثاني أكبر حليف في حلف شمال الأطلسي بقوتها البالغة 208 آلاف جندي. ومع ذلك، تواصل القوة “المتحالفة” التركية إثبات أنها خصم يتمتع بإمكانية الوصول إلى أسرار الناتو ورموزه واتصالاته وتكتيكاته وخططه الدفاعية.
تأتي جرأة أردوغان من الأسطورة التي تؤكد على مدى أهمية تركيا الجيوستراتيجية، والتي تضاءلت بشكل كبير منذ نهاية الحرب الباردة، وفشل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لعقود طويلة في معالجة العدوان التركي بشكل صحيح. تؤكد عدم الثقة في تركيا منذ عقود طويلة كحليف، ودورها كبوابة للمقاتلين الجهاديين الأجانب بين أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتوددها إلى الصين وروسيا في ما يتعلق بمشتريات الأسلحة المتقدمة وآخرها صواريخ إس – 400 الروسية، على أنها لا يمكن الوثوق بها كحليف في الناتو.
شكلت تركيا مصدر قلق كبير لوزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين بدرجة كافية حتى أنها استدعت الدبلوماسيين الأميركيين والأفراد العسكريين المعينين في مناصب في تركيا في عام 2015.
لقد أدى الفشل في كبح جماح أردوغان إلى تدمير مصداقية الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وكونهم أعضاء في حلف الناتو، يجب أن تغضب الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى من اعتداءات أردوغان المستمرة على حدود الاتحاد الأوروبي في اليونان وبحر إيجة، وكذلك من الاحتلال العسكري التركي لدولة الاتحاد الأوروبي ذات السيادة قبرص، ومزاعم ملكية موارد الهيدروكربونات في المنطقة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي في شرق البحر الأبيض المتوسط، وانتهاك الآثار المسيحية المدرجة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، والمحاولات الأخيرة لعرقلة توحيد شطري جزيرة قبرص.
أعمال أردوغان العدائية تجسد وتمثل أنواع التهديدات التي يلتزم الحلف والولايات المتحدة بردعها وهزيمتها. من انتهاك مواقع التراث العالمي لليونسكو من خلال تحويل آيا صوفيا وكنيسة المخلص المقدس البيزنطية التي يبلغ عمرها 1000 عام إلى مسجدين، إلى دعم الاتجار بالمهاجرين في أوروبا، والهجمات العنيفة وقمع الأكراد في تركيا وسوريا، وهجمات قوات الأمن الدبلوماسية على المواطنين الأميركيين في واشنطن العاصمة ودعم الإرهابيين والميليشيات الإسلامية في سوريا وشمال العراق وليبيا، وإصدار جوازات السفر التركية والملاذ الآمن لمسؤولي حماس، وانتهاكات للمجال الجوي والمياه الإقليمية للاتحاد الأوروبي، والتنقيب غير القانوني عن النفط والغاز في المناطق الاقتصادية الخالصة لليونان وقبرص وإسرائيل، ومزاعم غير قانونية بالسيادة في شرق البحر المتوسط، وشراء أنظمة أسلحة روسية متطورة من طراز إس – 400، وسجن المعارضين السياسيين والصحافيين، والاحتلال العسكري غير القانوني المستمر للجزء الشمالي من قبرص العضو في الاتحاد الأوروبي، ودعم هجوم أذربيجان والإبادة الجماعية للمسيحيين الأرمن في ناغورني قرة باغ، تمثل طموحات أردوغان القومية “العثمانية الجديدة” أكبر تهديد للحضارة الغربية والسلام والاستقرار منذ صعود الشيوعية والأهداف التوسعية للإمبراطورية السوفييتية خلال الحرب الباردة.
وعلى الرغم من تمرير الكونغرس الأميركي ومجلس الشيوخ لقانون شراكة الأمن والطاقة لشرق المتوسط لعام 2019، والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة بموجب قانون مكافحة خصوم الولايات المتحدة من خلال العقوبات في ديسمبر من عام 2020 لشراء تركيا في يوليو 2019 نظام الدفاع الجوي الروسي إس – 400، إلا أن أردوغان لا يزال يتبنى موقفاً متحدّياً.
أدان أردوغان العقوبات ووصفها بأنها “هجوم واضح” على الجهود السيادية التركية لتأسيس صناعة دفاعية مستقلة. وأصدرت الأحزاب السياسية التي تمثل أغلبية كبيرة في البرلمان التركي إعلانًا مشتركًا يعارض القرار الأميركي. وصرحت وزارة الخارجية التركية أن أنقرة “ستنتقم بالطريقة والتوقيت الذي تراه مناسبًا”. وهدد أردوغان بإغلاق القواعد التركية في وجه العسكريين الأميركيين وأصولهم.
وتؤكد تحركات أردوغان الأخيرة عندما أعلن دعمه لحل الدولتين في قبرص، وحذّر من أنه إذا أعلنت اليونان حدودها في بحر إيجة، وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، فسيتم اعتبار ذلك سببًا للحرب، على أنه ملتزم بمواصلة عدوانه، وأن خطابه وأفعاله تتطلب استجابة فورية وواضحة وموجزة.
حان الوقت لنظهر لتركيا أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وشركاءنا ملتزمون بالتعامل مع “العالم كما هو” وبكبح جماح أردوغان وأعماله المزعزعة للاستقرار التي تهدد السلام والاستقرار من أوروبا إلى البلقان وشمال أفريقيا وشرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
يجب التعامل مع سلوك تركيا المارق بشكل حاسم وفوري بالأفعال وليس بالكلمات فقط. هناك حاجة ملحة إلى فرض عقوبات أكثر صرامة إلى جانب التخطيط لعمليات جوية وبحرية منسقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتذكير تركيا، كما الخصوم، بالحدود التي تنتهي عندها سيادتها، وبداية التزامها بمسؤولية الدفاع عن سيادة القانون الدولي كدولة قومية وحليف للناتو.
ديميتريس غرايمز- ضابط أمريكي سابق- عن صحيفة العرب
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة