تواجه تركيا مع كل يوم يمر من الأزمة الأوكرانية مشكلة وتحدياً جديدين. فمنذ اليوم الأول للحرب الروسية على أوكرانيا، وأنقرة تحاول أن تقف على مسافة معقولة من كلا الطرفين. وهذا لا يعني الحياد. إذ إن تركيا تبيع الأسلحة ولا سيما الطائرات من دون طيار إلى أوكرانيا منذ ما قبل الأزمة بفترة طويلة. وروسيا عبّرت عن استيائها من ذلك نظراً لأن كييف استخدمت هذه الطائرات في معاركها مع الانفصاليين في شرق البلاد. وعندما اندلعت الحرب في 24 فبراير/ شباط الماضي، يقال إن المسيّرات التركية لعبت دوراً مؤثراً في المعارك ضد الجيش الروسي.
وعلى الخط الآخر فإن تركيا واصلت تعاونها مع روسيا في معظم الملفات القائمة بينهما، بل رفضت المشاركة في الحصار الاقتصادي الغربي لروسيا ودافعت عن بقاء موسكو في المجلس الأوروبي الذي اتخذ قراراً بطرد روسيا من عضويته.
مؤخراً طرحت على بساط البحث مسألة قرار السويد وفنلندا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. وهي المسألة التي أيقظت عفاريت تركيا تجاه هذين البلدين الأوروبيين «المسالمين». وهما بالنسبة لتركيا ليسا كذلك.
ترى أنقرة أن السويد تحديداً هي «مركز الإرهاب» في أوروبا. إذ إنها تقدم دعماً لا محدوداً إلى حزب العمال الكردستاني الذي ترى فيه تركيا «عدواً إرهابياً»، كما تقدم السويد الدعم لقوات الحماية الكردية في شمال سوريا والتي تعتبرها تركيا «امتداداً إرهابياً» لحزب العمال الكردستاني. وترى تركيا الأمر نفسه وإن بدرجة أدنى قليلاً في الدعم الفنلندي لأكراد تركيا وسوريا معاً. وتعتبر تركيا أن البلدين شكّلا «بيت ضيافة» لعناصر حزب العمال الكردستاني وقاعدة للتمويل والتسليح والدعاية والنشاط الإعلامي لهم. لذلك رفعت تركيا البطاقة الحمراء بوجه طلب السويد وفنلندا المحتمل للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. وجاء الرفض التركي على لسان الرئيس رجب طيب أردوغان شخصياً قائلاً، إن هذا لا يليق بحلف تركيا عضو فيه. وذهب أردوغان أبعد من ذلك للقول إن تركيا لن تكرر خطأ الجنرالات العسكريين بعد انقلاب 12 سبتمبر/ أيلول 1980 عندما وافقوا بعد أقل من سنة على طلب اليونان العودة إلى الحلف بعدما أخرجت منه بعد انقلاب العسكريين في اليونان عام 1974.
ويعتبر الأتراك عموماً أن زعيم الانقلاب العسكري كنعان ايفرين قد أخطأ بعدم ربط موافقة بلاده على عودة اليونان بمطالب مثل تسهيل انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما اعتبر موافقة مجانية تركية على قضية استراتيجية مثل عودتها إلى حضن شمال الأطلسي.
وعلى الرغم من تصريحات المسؤولين الأطلسيين والأوروبيين من أن تركيا قد توافق في النهاية على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي مقابل وقف كل الدعم لحزب العمال الكردستاني وإلغاء القيود على منع بيع الأسلحة الأطلسية إلى تركيا، فإن للمسألة أيضاً وجهاً آخر.
فانضمام البلدين إلى حلف شمال الأطلسي يعتبر من الخطوط الحمر لدى روسيا. فحلف شمال الأطلسي يضغط من أجل تشديد الخناق على روسيا من جبهتها الشمالية رداً على غزوها أوكرانيا. وإذ يعجز الحلف عن دعم أوكرانيا بالتورط معها في الحرب مع روسيا فإنه يحاول تعويض ذلك باتخاذ خطوات استراتيجية من قبيل تطويق روسيا دائرياً بعدما كان يحاول اختراقها في العمق عبر أوكرانيا.
لذا، فإن منع انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي يعتبر قضية استراتيجية روسية. وهنا تجد تركيا نفسها في موقف حرج للغاية. إذ إن موافقتها على انضمام البلدين سيسبب لها صداعاً كبيراً مع روسيا التي قد تنظر إلى الخطوة على أنها عدائية من دون أن يعني ذلك خطوات روسية فورية ضد أنقرة، بل انتظار الوقت المناسب لإلحاق الأذى بالمصالح التركية. وربما قد ترفع تركيا سقف مطالبها من حلف شمال الأطلسي ليكون ثمن موافقتها على الانضمام كبيراً ودسماً، لكن المصالح المتشابكة التركية – الروسية قد تحول دون الموافقة التركية.
وفي جميع الأحوال فإن تركيا ستكون أمام امتحان سيسبب لها الحرج وقد لا تخرج منه سالمة. وهذا الحرج التركي هو جزء من قلق الهوية الذي يلازم تركيا منذ تأسيس الجمهورية في العام 1923 ولا يزال.
محمد نورالدين – كاتب لبناني – صحيفة الخليج
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة