أنقرة فشلت في إدراك حقيقة أن محاولاتها لإثارة كل طرف ضد الآخر ليست بلا ثمن سياسي.
يتبين من نظرية الإسلاموية أن هذا التوجه السياسي الممزوج بالدين يُلزم تركيا بأن تتحول إلى دولة مُحاربة؛ فهذه النظرية تؤكّد أن الإسلاموية تجعل من حالة الحرب أمرا طبيعيا وسمة دائمة في البلاد.
وهناك مقولة شهيرة في تركيا مفادها أنه ينبغي علينا الاعتياد على التعايش مع الزلازل. وبالمفهوم السياسي، فإن هذا يعني الاعتياد على الحرب.
الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان قال في كلمة ألقاها في الآونة الأخيرة، قبل لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخميس الماضي، إنه يتمنى أن يحارب الحكومة السورية بانفتاح أكبر. في تلك الكلمة، طلب أردوغان من بوتين التنحي جانبا عن معركة مدينة إدلب السورية، والسماح بحرب بين تركيا وسوريا وجها لوجه، كاشفا بذلك ولع صنّاع القرار الشديد بالحرب.
وخلال السنوات الثلاث الماضية، كانت تركيا تركّز على روسيا في سياستها، التي أصبحت مصدر إزعاج مستمر لكتلة حلف شمال الأطلسي. ولم يكن هناك شخص أسعد بذلك الوضع من بوتين.
لكن في الأسابيع القليلة الماضية، وصلت تركيا إلى مرحلة بات فيها وكلاؤها في سوريا يستهدفون الروس، ويقاتلون الميليشيات المدعومة من إيران ومسلحي حزب الله اللبناني.
وإذا كان هذا الأمر أكثر من مجرد انتقام بسبب مقتل جنودها، فإن أنقرة تكون بذلك قد غيّرت موقفها تماما، وصارت لديها الآن الرغبة في أن يعلم زملاؤها في حلف شمال الأطلسي أنها مستعدّة لإيلام روسيا وحلفائها.
الجانب المهم هنا هو أن روسيا وإيران لم تتوقعا في يوم من الأيام أن تأتيهما تركيا راغبة وتنضم إلى صفوفهما بشكل كامل ودائم. أيضا، كانت العلاقات مع هذين البلدين سطحية وقائمة بشكل أساسي على البراغماتية السياسية والاقتصادية.
لكن، الأمر الأسوأ بالنسبة لتركيا هو أنها فشلت في إقناع الغرب بتحركاتها في الآونة الأخيرة إقناعا تاما. فقد ظلّت السياسة التركية تتلون على مدى نحو ست سنوات، ومن الطبيعي أن تكون لدى الكتلة الغربية شكوك في مثل تلك السياسة التي لا تستقر على حال، وتتغير بين عشية وضحاها.
لذلك، فإن تركيا كبلد ليست أكثر من منطقة عازلة في نظر الغرب.
وإذا لعبت تركيا بإرادتها دورا يُعكر صفو روسيا وإيران وحزب الله في سوريا، فإن هذا، بالتأكيد، سيكون محل تشجيع من الدول الغربية.
وتكمن المشكلة الحقيقية هنا في أن أنقرة فشلت في إدراك حقيقة أن محاولاتها لإثارة كل طرف ضد الآخر ليست بلا ثمن سياسي. فتركيا لم تجنِ أي شيء من هذا التلوُّن، بينما تتزايد التكلفة التي يتحملها الاقتصاد والمجتمع التركي بسبب ذلك السلوك.
النقطة المهمة جدا هنا هي تسييس الجيش. بالتأكيد يجب أن تكون القوات المسلحة مسؤولة أمام الإدارة المدنية، لكن هذا لا يجب أن يعني إملاء المدنيين تكتيكات الجيش.
ويتولى وزير الدفاع خلوصي أكار، المسؤولية الفعلية عن قيادة الجيش، ليس كقائد يرسم السياسات، وإنما كقائد عسكري. بمعنى آخر، فإن أكار، وهو قائد مدني بالمفهوم الفني، هو من يقود عمليات الجيش في سوريا.
وقد حاولت الحكومة تأسيس نظام جديد من خلال مفهوم الصراع مع حركة فتح الله غولن، التي تتهمها أنقرة بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016. وستخدم الحرب في سوريا الغرض ذاته.
ولا أعتقد أن موجة النزعات القومية التي تعلو في تركيا اليوم سبق لها مثيل خلال حرب الاستقلال التركية. ومن الأهمية بمكان أن نرى كيف خلقت هذه الموجة مجتمعا جديدا.
الأعجب من ذلك أن أشخاصا من جميع الفصائل في تركيا صاروا مؤمنين بالتوجهات القومية الإسلامية العسكرية التي أسس لها أردوغان. فنجد أن بعض الدوائر الدينية التي أغضبها الرئيس مازالت تعتنق آراءه الدينية، بينما هناك علمانيون أيضا يقدّرون سياساته ضد المهاجرين.
مفاد القول أن المجتمع رحّب بهذه الموجة الجديدة وبدا سعيدا بها.
كان هناك بعدان كبيران يشكّلان ملامح المشهد التركي. أحد هذين البعدين هو السياسة الخارجية، وقد انهارت. أما البعد الثاني فهو الاقتصاد، لكن في ظل موجة الشعبوية الأردوغانية المخيفة، يجب علينا ألا نضع ثقة كبيرة في الواقع الاقتصادي.
الحقيقة الواضحة هي أن أردوغان رسم طريقا جديدا لتركيا. وليس بوسعنا أن نفعل شيئا سوى أن ننتظر لنرى إلى أين سيأخذنا هذا الطريق.
غوكهان باجيك – كاتب وأكاديمي وباحث تركي – صحيفة العرب
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة