سوريا ظلمت لا بسبب سوء الفهم بل بسبب الانقطاع عن الحقيقة، فلا الولايات المتحدة رأت النظام السوري في حجمه الحقيقي ولا النظام رغب في أن يتواضع ويتخلى عن هيلمانه الفارغ.
الرئيس بشار الأسد كان أضعف من أن يقف في مواجهة المراوغات الحزبية
كانت الأزمات الاقتصادية جزءا من الحياة العادية في سوريا. غير أن سوريا نفسها كانت تمتلك فائضا غذائيا دائما.
هل كانت الأزمات مقصودة لأسباب أمنية، بحيث يبقى المواطن مشدودا إلى مواقع بعيدة عن الاهتمام بالسياسة وشؤون الحكم؟
ذلك أمر محتمل فالنظام السياسي الذي قاده حافظ الأسد وأورثه ابنه بشار لم يكن على أي حال من الأحوال بريئا. ما من نظام سياسي بريء.
غير أن سوريا ليست بلدا ثريا وقد قُدر لها أن تقع بين حصارين. حصار أميركي لئيم وآخر يرتبط بما يمليه عليها شعار الصمود والتصدي والممانعة من واجبات عبثية.
كلا الحصارين مرتبطان أحدهما بالآخر. فبسبب تبنيها لمشروع فارغ المحتوى منفصل عن الواقع، عنوانه المقاومة من غير أن يكون هناك ما تقاومه فُرض عليها الحصار الأميركي بخبث وبسبب ذلك الحصار فقد انحرفت سياسة الحكم في اتجاه عناد أوقع البلاد وساكنيها في دوامة من الخطابات الثقيلة التي هي عبارة عن لغو فارغ يقع عند حدود السياسة غير أنه لا يمتّ لها بصلة وكان ذلك مسرحا لحصار داخلي عاشه السوريون في ظل سلطة متعالية، مغرورة تظن أنها تعرف كل شيء وتتعامل مع الشعب بلغة العرافات.
وهكذا تكون سوريا قد ظلمت لا بسبب سوء الفهم بل بسبب الانقطاع عن الحقيقة. فلا الولايات المتحدة رأت النظام السوري في حجمه الحقيقي بما ينسجم مع قوته ولا النظام رغب في أن يتواضع ويتخلى عن هيلمانه الفارغ ويعود من أوهامه إلى الواقع فينظر إلى نفسه في مرآة ذلك الواقع.
لم تكن سوريا تشكل خطرا على أحد. ولو تم التعامل معها بشيء من الاحترام الذي تستحقه لما تدهورت علاقتها بالعالم الخارجي. كان حافظ الأسد ذكيا في مسألة الحفاظ على نوع من التوازن في علاقات سوريا بالعالم الخارجي وكان ناجحا إلى حد كبير في تقديم سوريا باعتبارها دولة ناجحة.
كل الأزمات الاقتصادية التي عاشها السوريون لم تقف حائلا دون أن تكون دولتهم ناجحة على الكثير من الأصعدة. فعلى سبيل المثال كان التعليم متقدما وكان هناك نوع من الاستقرار المالي إضافة إلى أن سوريا كانت إلى عام 2011 تعتبر من الدول الآمنة بالنسبة إلى مواطنيها وزائريها على حد سواء. وعلى مستوى العلاقة بمحيطها العربي كان ثبات الموقف السوري من القضايا المشتركة قد شكل ضمانة لموقف عربي موحد أمام العالم.
لم تكن سوريا دولة ظل بل كانت دولة فاعلة على مستويات عديدة.
هل تقود تلك الحقائق إلى مديح الأب وهجاء الابن؟
بالتأكيد تراجعت فلسفة الحكم بمجرد أن تم الإعلان عن نجاح مشروع الوراثة. ما حدث بعد ذلك كان تكريسا للفشل الذي ينسجم مع الأداء الحزبي المتهالك والوصولي وغير النزيه ورغبة الأجهزة الأمنية في ابتلاع الدولة والهيمنة على مواقع القرار فيها.
وبالرغم من أسلوبه الخطابي المتحذلق فإن الرئيس بشار الأسد كان أضعف من أن يقف في مواجهة المراوغات الحزبية وكفاءة الأجهزة الأمنية في اختراع أعداء وهميين. كان ذلك الفشل واضحا بالنسبة إلى الشعب الذي كان متعاطفا مع الرئيس حين طالب بإلغاء الفقرة الدستورية التي تهب حزب البعث حق التفرّد بالسلطة ودعا إلى تقييد صلاحيات الأجهزة الأمنية بالقانون.
كان الرئيس الشاب يومها في واد آخر ولم ينصت إلى الشعب.
لقد أغراه الاستقرار الذي عاشته سوريا بحقائق زائفة فصدق أن الحزب والأجهزة الأمنية هما دعامتا ذلك الاستقرار ولم يلتفت إلى حقيقة أن المجتمع المدني في دمشق وحلب وحمص واللاذقية وسواها من المدن السورية كان متقدما على نظامه الذي كان واحدا من أكثر الأنظمة تخلفا في المنطقة بسبب اعتماده على آليات عمل قديمة لم يتم تحديثها فتعرضت للاندثار. لذلك فإنها لم تعد صالحة للاستعمال.
كان المجتمع السوري حديثا فيما كانت الدولة قديمة ومتهالكة.
أما كان ذلك واضحا بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي أصرت على حصارها الذي ألحق أضرارا فادحة بالمجتمع السوري؟
في كل أحوالها كانت سوريا هي الضحية. أما حين دخلت دول كثيرة على خط الحراك الشعبي السياسي السوري فانحرفت به وحولته إلى ثورة مسلحة فقد طحنت تلك الضحية. لم يعد الموضوع يتعلق بأجزائها بل بفتاتها. لقد تفتّت الدولة السورية غير أن المجتمع السوري قد سبقها إلى التمزق. انتقل السوريون إلى دول الشتات. فقدت سوريا الكثير من صفاتها الأصيلة بغياب صورة مجتمعها.
لا يزال بشار الأسد يحكم غير أن شعب سوريا فقد مكانه. فهل يعتبر الأسد نفسه رئيسا لشعب يتوزع بين القارات؟
فاروق يوسف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة