ليست «يالطا» جديدة، كما أنها ليست قمة استثنائية، ولم تخرج بنتائج غير متوقعة، واكتفى الطرفان بالتوافق على دفع المسار الدبلوماسي للتخفيف من حدة التصعيد في الملفات الحيوية، التي حضرت بشكل هامشي طوال 4 ساعات من المحادثات. محادثات أراد كل طرف استغلالها وفقاً لأجندته الخاصة، بعدما أخفقا في التوافق على أجندة عامة تعالج قضايا حساسة تؤثر على الأمن والاستقرار الدوليين بعيداً عن اتفاقيات الحد من القدرات النووية أو عودة السفراء وقضايا المناخ.
في فيينا كانت التجاعيد على وجه جو بايدن دليلاً على عمر طويل، قضاه مع لجنة الشؤون الخارجية، في ذروة المواجهة مع السوفيات في مرحلة الحرب الباردة، مكّنته من امتلاك خبرة في الملف الروسي وقدرة على فهم نظيره الذي تحوَّل منذ لقائهما الأول في موسكو 2011 إلى خصمه، لكن هذا الخصم الذي اهتم في مظهره الخارجي وغابت التجاعيد عن وجهه الستيني، يصر على مواجهة الخبرة بالفتوة، لذلك قد يكون قد حصل من القمة على ما يريده.
كان واضحاً أن فلاديمير بوتين حصل على المشهد الذي يخدمه داخلياً، وذلك خلافاً لأقرانه السوفيات الذين كانوا يرون في القمم الثنائية مع رؤساء الولايات المتحدة فرصة لانتزاع الاعتراف الدولي بزعامتهم العالمية، باعتبار أن هذه القمم هي اعتراف بشرعيتهم خارجياً، أما فلاديمير بوتين فيدرك جيداً أن شرعيته الخارجية محدودة ومبنية على ما تؤمّنه سياسات المناكفة مع الغرب خصوصاً واشنطن، لذلك يلجأ إلى استثمار القمم داخلياً، فهو يستخدمها للإمساك أكثر بالسلطة ولتأمين شرعية نظامه، الذي لا يستند كما في الحالة السوفياتية إلى عقيدة تحكم الدولة والمجتمع، بل إن شرعيته الداخلية مهدَّدة دائماً بضعفها الآيديولوجي، وتعاني من أزمة هوية، لا يمكن تحصينها أو تعزيزها إلا من خلال استعراض القوة في مثل هذه القمم.
في المقابل حرصت القيادة الأميركية على إظهار القمة على أنها محادثات ثنائية وليست ثنائية قطبية، خصوصاً أن الإدارة الأميركية الحالية والرئيس بايدن يتصرفان من موقع المنتصر في الحرب البادرة، ومن غير الوارد التراجع عن زعامة واشنطن العالمية، لذلك لم تبدِ اهتماماً بالحديث عن حرب باردة جديدة أو سباق تسلح جديد، بعدما قامت بتغيير قواعد الاشتباك وأصبحت بمحاذاة الحدود الروسية، وتشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الروسي من جورجيا إلى أوكرانيا، مروراً بأذربيجان وبيلاروسيا، إضافة إلى تفوق اقتصاديّ وماليّ قضى على مبدأ توازن الرعب الذي حكم العلاقات بين المعسكرين فترة الحرب الباردة، والذي سقط الآن لصالح سلاح العملة والتجارة العالمية المدولرة بنسبة 66%، الأمر الذي سمح لواشنطن بالتحكم في حركة المال عالمياً والاقتصاد العالمي، وبات سلاح العقوبات لا يتوفر إلا في الولايات المتحدة.
جرت العادة أن تؤسِّس القمم الفاترة أو محدودة النتائج لأزمات سياسية واستراتيجية بينهما، من قمة نيكيتا خروتشوف مع أيزنهاور في عام 1959 التي شهدت بعدها أوروبا صراعاً جيوسياسياً بين المعسكرين، وقمة فيينا في يونيو (حزيران) 1961 بين جون كينيدي وخروتشوف المبهمة النتائج، كادت تنفجر بعد فترة حرب نووية.
أما قمة مايو (أيار) 1972 والتي كان جوهرها حرب فيتنام حيث جمعت ليونيد بريجنيف مع ريتشارد نيكسون، فكادت تشعل حرباً عالمية في الشرق الأوسط. وتبقى الأهم قمة فيينا 1979 بين كارتر وبريجنيف التي سبقت حرب أفغانستان.
فيما كانت قمة ريغان غورباتشوف سنة 1985 مفصلية في مستقبل الاتحاد السوفياتي، لذلك فإن هذه القمة ومع غياب كامل للكيمياء بين الرئيسين وتجنب معالجة القضايا الملحّة، قد تؤدي إلى كوارث استراتيجية.
وعليه نجح فلاديمير بوتين في التقاط صورة، وزّعتها أجهزته الإعلامية والأمنية على وسائل الإعلام المحلية كافة، لتُظهر نشوة الانتصار على مًن وصف قيصر الكرملين قبل فترة بالقاتل، ولكن الاستنزاف الاستراتيجي لموسكو في الملفات الحيوية مستمر وباتت واشنطن في محاذاة حدودها الجيوسياسية.
مصطفى فحص – كاتب وصحفي
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة