الشعب الليبي كسر حاجز الخوف وانطلق بصدور عارية ليواجه رصاص المرتزقة حيث لم يعد بإمكانه أن يتحمل الإهانة أكثر في وطنه وعلى أيدي حكامه.
أثبتت انتفاضة طرابلس، التي اندلعت الأحد الماضي، أن جذوة الوطنية الليبية لا تزال حية عكس ما اعتقد المراهنون على انطفائها، وأن غضب الشعب يمكن أن يقلب الطاولة على الجميع. فالذين خرجوا إلى الشوارع وواجهوا رصاص الميليشيات والمرتزقة هم السكان المحليون الذين طفح بهم الكيل وأدركوا أن النخبة التي قادتها الصدفة أو المؤامرات الخارجية إلى سدة الحكم غير مستعدة للعودة عن فسادها واستبدادها ولا إصلاح ولو البعض مما دمرته خلال السنوات الماضية بسياسات الأمر الواقع المفروضة على بلد منهوب الثروة ومسلوب الإرادة.
تحركت الأغلبية الصامتة في طرابلس وقبلها في الزاوية وسبها وصبراتة وغيرها، بينما تبدو كل مناطق ليبيا مهيأة للانتفاض، فالشعب الذي يعيش على أرض تختزن في جوفها ثروات طائلة، يواجه يوميا أزمات لا حدود لها في معيشته حيث لا ماء ولا كهرباء ولا غاز ولا رواتب ولا سيولة ولا وقود ولا خدمات صحية، بينما تدار مؤسسة الحكم بأساليب مافيا لا يهتم عناصرها إلا بما يستطيع كل منهم نهبه من المال العام وتحويله إلى الخارج.
“مسلحون كانوا من راقدي الريح”، كما يقال في ليبيا تحولوا فجأة إلى أثرياء يحتكمون على المئات من الملايين ويبحثون عن المزيد وبعضهم يمتلك جوازات سفر أو إقامات سارية في دول عدة حيث تدار مشاريع ضخمة بالمال المنهوب، في حين أن المواطن العادي أصبح عاجزا عن توفير رغيف الخبز لأطفاله.
المواطن أصبح ينتظر أربعة أو خمسة أشهر للحصول على راتبه الذي لا يساوي في الأخير ثمن وجبة غداء لميليشياوي في مطعم تركي، بل لا يساوي في حالات كثيرة عُشر راتب مرتزق سوري جلبه أردوغان من ريف حلب أو إدلب لحماية عرش السراج ونفوذ الإخوان.
حدثني أحد الأصدقاء أن ربّ الأسرة بات يتعمد البقاء في الشوارع إلى ساعات متأخرة من الليل ولا يعود إلى منزله إلا بعد أن يكون جميع أفراد الأسرة في سبات عميق، لأنه لم يعد قادرا على أن يعود كما كان يفعل سابقا محملا بما لذ وطاب للزوجة والأطفال. وأضاف أن هناك عملية إذلال ممنهجة تعرض لها الشعب الليبي حيث يمكن تخيل كيف ينتظر الموظف أحيانا أربعة أشهر للحصول على راتب شهر واحد لا يتجاوز مئتي دولار بسعر السوق السوداء، بينما المرتزق الأجنبي العامل تحت إمرة غرفة العمليات التركية يتلقى ألفي دولار كل شهر.
الفساد في ليبيا اليوم صناعة قائمة الذات، ففي العام الماضي تحدث المبعوث الأممي المستقيل غسان سلامة عن أن مليونيرا جديدا يولد كل يوم في البلاد، حيث تشير كذلك التقارير الغربية إلى أن ما يجري في ليبيا هو نهب وليس فقط سرقة. علينا أن نتذكر أن الدولة الثرية بالنفط والغاز في شمال أفريقيا تعرضت في العام 2011 إلى أكبر عملية سطو مسلح بعد ما عرفه العراق في العام 2003.
المجلس الرئاسي الذي أفرزه اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015 لحل مشكلات البلاد وانتهاء مهمته في أجل أقصاه عامين بدخول الغاية، يمارس كل أشكال الفساد، وهذا ما يؤكده عدد من أعضائه ووزرائه ممن دعوا منذ فترة للانتفاض عليه. أساليب الفساد كثيرة، لكن أبرزها التلاعب بالدولار الذي يباع من المصرف المركزي مقابل 1.3732 دينار ليبي، وعند وصوله السوق السوداء يكون سعره قد تضاعف أربع أو خمس مرات، ليستفيد الفاسدون من ذلك العائد بشكل ممنهج حيث يعمل أحد المتنفذين على الحصول على مبلغ مليون دولار و373.200 ألف دينار ليبي، ثم يعرضه في السوق السوداء ويبيعه مثلا بستة ملايين دينار، فيكون قد كسب في عملية واحدة أربعة ملايين و626.800 ألف دينار، ثم يعاود الكرّة، وهذا الأمر لا يستفيد منه إلا أمراء الحرب وقادة الميليشيات ورجال الأعمال الفاسدون والشخصيات المتنفذة في السلطة، ولكن الحكومة نفسها تعتمد عليه في تحصيل الأموال الضرورية لدفع ثمن السلاح المهرب ورواتب المرتزقة ولشراء الذمم.
أيضا الأموال المخصصة لمكافحة فايروس كورونا تم نهبها، ومن قبل من؟ من قبل كبار المسؤولين في جهاز الطب العسكري التابع لحكومة فايز السراج، بينما الوباء باق ويتمدد وتجاوز عدد المصابين به نحو 11 ألف شخص من باب الحالات التي أجرت التحاليل الطبية في حين يشير الخبراء إلى أن الأرقام الحقيقية أكبر من ذلك بكثير.
يشعر الليبيون أن بلدهم لم يعد بلدهم وهو اليوم بيد اللصوص والمرتزقة والمحتل التركي وعصابة الإخوان الإرهابية. هذا الأمر يتجسد بالخصوص في طرابلس العاصمة المكلومة التي اختطفتها الميليشيات بغطاء إسلاموي منذ تسع سنوات وحكمها فاسدون لم يرعووا عن استقدام محتلين أجانب ومرتزقة متعددي الجنسيات لحماية مصالحهم التي لا تنتهي ولا تقف عند حد.
عندما بسط المحتل التركي نفوذه، برز الصراع على حكم المرحلة القادمة بين السراج حامل العار الأبدي، ومساعديه المنقلبين عليه وفي مقدمتهم وزير داخليته فتحي باشاغا المدعوم بميليشيات مصراتة، ليتأكد للأغلبية الصامتة من أن دائرة الخراب في طريقها إلى المزيد من الاتساع، ومن أن لا أحد يقاوم بريق المال والسلطة.
نعم هناك تنافس على الحكم في طرابلس ولكن لا أحد يفكر في الشعب الذي عليه أن يقبل كل ذلك باسم الدفاع عن وهم الدولة المدنية الديمقراطية المستعمل غطاء للفساد المستشري والذي يبدو أنه لا يرضي إلا الأطراف الغربية المتداخلة والساعية بدورها إلى الحصول على نصيبها من الكعكة.
إن انتفاضة طرابلس بدأت لكي لا تتوقف وهي النظير الفعلي لانتفاضات العراق ولبنان وهدير صوت الشعب، الذي أدرك أن نخبته السياسية الطارئة لم تجلب له إلا الخراب والفساد والجوع والفقر والأمراض، وأن الدخيل الأجنبي لم يحمل معه سوى الدمار والمؤامرات والصفقات المغشوشة، وأن الميليشيات لا تريد إلا البقاء حاكمة بأمرها متحكمة في مسارات السلطة والمال، وأن الديمقراطية المزيفة هي أول أبواب التخريب الممنهج للمجتمعات وهي أول مسالك الفاسدين إلى المزيد من الفساد، والمستبدين إلى المزيد من الاستبداد.
ومهما يكن من أمر، فإن انتفاضة طرابلس بدأت لتتواصل، فالشعب قد كسر حاجز الخوف وانطلق بصدور عارية ليواجه رصاص المرتزقة حيث لم يعد بإمكانه أن يتحمل الإهانة أكثر في وطنه وعلى أيدي حكامه، الذين حان وقت الدفع بهم إلى منصة العدالة ليستمعوا إلى حكم الجماهير المزلزل، وليدركوا أن الشعوب عندما تجوع تأكل لحم مغتصبها، كما قال الشاعر محمود درويش.
الحبيب الأسود – كاتب تونسي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة