طرفان سوريان متعاديان سيكونان معاً الأكثر تضرراً من احتمال تقدم المصالحة بين حكومة أنقرة ونظام دمشق، هما غالبية كتل المعارضة السورية وقوات سوريا الديمقراطية الكردية «قسد»، فالأولى سترغم على مزيد من الانحناء والتنازل لإرضاء الوصي التركي وتمرير إملاءاته، والثانية، هي الثمن المتوجب دفعه سورياً وروسياً، لقاء انعطافة أنقرة نحوهما، الأمر الذي أثار سؤال البحث عن إمكانية حصول تقارب بين هذين الطرفين لتخفيف الأذى والأضرار عنهما وعن مستقبل التغيير بسوريا، وتالياً عن نقاط القوة التي تشجع هذا التقارب وتمكنه، ونقاط الضعف التي تفضي، كالعادة، إلى الاستهانة بهذه الفرصة وهدرها.
تبدو اليوم النافذة الكردية أشبه بخيار منطقي وغير مكلف أمام من لا يزال في المعارضة السورية يحتفظ بإرادة التغيير ويرفض الاستسلام للواقع المزري القائم، فانعطافة حكومة أنقرة لا بد أن تشجع موضوعياً تلك المعارضة لبدء رحلة الانفكاك التدريجي عن سياسات تركيا وتحولاتها، خصوصاً أن الأخيرة دأبت على وضع مصالح الشعب السوري وراء مصالحها، منذ تدخلها في أزمة حلب وتعاونها في الآستانة وسوتشي لتمرير مناطق خفض التصعيد، ثم تفردها بانعطافها الأخير من دون أن تقيم اعتباراً لمختلف كتل المعارضة أو تستشير بعضها، الأمر الذي يخفف عملياً من حدة التحفظات تجاه «قسد»، ويدفع نحو التعاطي الجدي والصريح مع الحالة الكردية في شمال وشرق البلاد كجزء من مشروع التغيير، ليس فقط لأن القوات الكردية هي إحدى القوى العسكرية الوازنة وتمتلك قدرة الدفاع عن نفسها وتسيطر على نحو ثلث البلاد وقسم مهم من ثرواتها، وليس أيضاً لأنها القوة التي لم تساوم الإرهاب الإسلاموي وترفع شعارات ديمقراطية تتوافق، وإنْ شكلاً، مع شعارات ثورة السوريين، أو القوة التي لا تزال تحظى بدعم وحماية الولايات المتحدة، صاحبة المصلحة بتحجيم نفوذ النظام السوري وإيران وروسيا في البلاد، والداعمة للحل السياسي وفق بيان جنيف والقرار الأممي (2254)، وإنما أيضاً لأن ما كان يثار عن ارتهانها للنظام بدأ ينحسر منذ سنوات أمام تمايز مصالحها وتنامي اشتراطاتها في مواجهته، خصوصاً أن بعض أطرافها يدرك أن حقوقه القومية لن تكون آمنة في ظل سلطة دمشق، من حيث الضمانات الدستورية ومؤسسات قادرة على حمايتها… هذا الجديد يمكن للمعارضة تغذيته والرهان عليه، فكيف الحال عندما تغدو هذه النافذة خياراً شعبياً أيضاً، بدليل المظاهرات التي خرجت في الشمال السوري ضد تصريحات وزير الخارجية التركي وحمل بعضها يافطات تدعو للانفتاح على «قسد»، ثم البيان الذي صدر مؤخراً عن العشائر العربية في مدينة الرقة، ودعا فيه المعارضة المعتدلة للتقارب مع القوات الكردية ضد المخططات التركية، من دون أن نغفل ما يعنيه ازدياد أعداد المقاتلين الذين يتركون الشمال السوري ويتوجهون شرقاً للالتحاق بقوات سوريا الديمقراطية! وكيف الحال والتقارب السوري التركي لا بد أن يقضي على أي أمل كان يعقد عند «قسد» لاستمالة النظام وروسيا في مواجهة المساعي التركية لمحاصرتها وتصفية وجودها، ولعل ما يزيد النقاط السابقة قوة، أن الطرفين خاضا جولات عديدة ولسنوات في التفاوض مع النظام ولم تسفر عن نتائج ذات معنى، إنْ عبر مشاركة المعارضة في اجتماعات سوتشي والآستانة، ثم اللجنة الدستورية، وإنْ عبر فشل حوارات تمت برعاية روسية بين «قسد» والنظام، وبدا فيها أن الأخير لا يريد التنازل والاعتراف بأي متغيرات حصلت، ويصر على العودة بالأوضاع في سوريا إلى ما قبل عام 2011.
صحيح أن ثمة محطات متنوعة أظهرت فيها «قسد» حسن النية وطنياً، كدعواتها المتكررة للحوار والتعاون مع المعارضة السورية، ثم المرونة التي أبدتها لاستقبال عشرات آلاف النازحين من مختلف المناطق، توجتها هذا العام، برفع علم الثورة وشعاراتها إلى جانب العلم الكردي خلال الاحتفال بذكرى انطلاقتها، لكن الصحيح أيضاً أنها لا تزال محط انتقاد شديد في السياسات والممارسات، إنْ لجهة عدم امتلاكها رؤية واضحة ومطمئنة حول المستقبل السوري، بينما لا يزال بعضها يجاهر باستفزاز عن إقامة الكيان القومي المستقل، والأنكى طرائقها في توسل القوة والاستئثار والتفرد، وقمعها لمعارضين سياسيين وإعلاميين في مناطقها، كما إصرارها في حوارها مع المجلس الوطني الكردي، على رفض مطالب وطنية مشروعة، كإطلاق سراح المعتقلين ووقف تجنيد الأطفال وفك الارتباط بحزب العمال الكردستاني.
تاريخياً، تكمن إحدى أهم نقاط الضعف بين المكونين المعارضين، العربي والكردي، بوجود أزمة ثقة عميقة ومزمنة بينهما، تحرم المجتمع السوري، في توقه للتغيير، من توافق وتعاضد مختلف طاقاته الوطنية، تتجلى عند العرب بشعور ملتبس بأن الأكراد يضمرون غير ما يظهرون ويترقبون الفرصة للانفصال وتحقيق أهدافهم القومية بلا اعتبار للمصلحة الوطنية العامة، وتتجلى لدى الأكراد بإحساس مزمن بالظلم والاضطهاد والتمييز، وبأنهم كانوا يُستخدمون دائماً كوقود أو كأوراق ضغط لمختلف القوى والجماعات السياسية في صراعاتها وتسوياتها، لكن ما يعمق أزمة الثقة ويزيد من تعقيدات خيار الانفتاح والحوار بين «قسد» والمعارضة السورية، هو المآخذ الكثيرة على الأخيرة، التي لا تزال تعاني من التشتت، وتمزقها أهواء سياسية وتنازعات شخصية بغيضة، ولا تمتلك إلى الآن تصوراً واضحاً لمعالجة المسألة الكردية، بل ثمة وجهات نظر متفاوتة، ولا ترتقي جميعها إلى حد الاعتراف الجريء بالحقوق القومية للشعب الكردي، فهناك من ينكر هذه الحقوق ويعتبر الكرد مجرد وافدين، وهناك من يختزلها بسقف قيام دولة المساواة والمواطنة، والأنكى تفضيلها، في مواجهتهم، للجماعات الإسلاموية المتطرفة ولجبهة «النصرة» وغيرها، المعادية لشعاري السوريين في الحرية والكرامة، ويزيد الطين بلة درجة نفوذ «الإخوان المسلمين» بصفوفها الذين عادة لا يتنازلون عن التعاضد العقائدي مع أشباههم لمصلحة الرؤية الوطنية.
والحال، إلى متى تبقى المعارضة السورية أسيرة وهم استحالة الانفتاح والمصالحة بين أنقرة ودمشق، تستمرئ سياسة النعامة وتطمر رأسها في الرمال كي لا ترى وتختبر النافذة الكردية المتاحة للحفاظ على مشروع التغيير؟ ألا يفترض أن يدفعها نذير التحول التركي للمبادرة وفتح قنوات الحوار والتواصل مع «قسد» لتخفيف الشروخ وتصويب ما ينبغي تصويبه والبناء على ما هو مشترك، تحدوها حقيقة أنه لا يمكن فصل محنة وخلاص الأكراد السوريين عن محنة وخلاص العرب السوريين؟
أكرم البني – كاتب سوري – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة