دمشق °C

⁦00963 939 114 037⁩

رأي – المستقبل الروسي: ملامح وتحديات

مرّت روسيا الاتحادية بمراحل صعبة، سياسياً واقتصادياً، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وفقدت خلال عقد من الزمن سمتها وهيبتها ومكانتها الدولية، وغرقت داخلياً في مجموعة من المشكلات الاجتماعية والثقافية، وإلى جانب حاجتها لتحديد هويتها الداخلية، كانت تعمل على إعادة مكانتها الدولية. لقد شهدت تلك المرحلة تناقضات روسية بنيوية، بين تركةٍ سوفياتية شمولية، وإرثٍ روسي قيصري، وحاضرٍ متناقض فاقد للهوية، في خضم هذه المتناقضات الثلاث جاء الحراك الروسي المعاصر «بإرادة القوميين الروس» لإعادة التموضع، والبناء الذاتي، ومن ثم رسم المشروع الروسي المستقبلي، والذي جاء في شقين «داخلي وخارجي»، ويعنينا هنا الشق الخارجي والذي توزع على مسارات، منها:
1- المحيط الجيوسياسي لروسيا والمتمثل في الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي في آسيا الوسطى.
2- العمق الاستراتيجي الروسي في شرق أوروبا والذي شهد توغلاً قوياً للناتو.
3- استعادة المكانة الروسية في منطقة الشرق الأوسط.
4- التحديات الاقتصادية الدولية، ولا سيما فقدان روسيا كثيراً من مقوماتها الاقتصادية بسبب الانتقال القسري من النظام الاشتراكي إلى نظام السوق المفتوح (الرأسمالي)، وفوضوية برامج الخصخصة لمقدرات الدولة الروسية.
من خلال هذه المسارات عملت روسيا على رسم معالم المستقبل، وهنا برز تحدٍّ جديد تمثل في:
1- هوية هذا المستقبل. 2- محيطه الجيوسياسي. 3- أبعاده السياسية والاقتصادية.
تقاطع هذا التحدي الثلاثي مع تناقضات بنيوية المرحلة الانتقالية الروسية.
لعل سنوات الانكفاء الروسي (العقد الأول بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ونشوء روسيا الاتحادية: 1991 – 2000م)، لعل هذه الفترة الزمنية عادت بمنافع مستقبلية، إذ منحت الفرصة لرواد الفكر الاستراتيجي الروسي لانضاج مشاريعهم لبناء دولتهم القومية ومعالم مستقبلها، وكان لذلك مجموعة من الممهدات، منها:
1- إعادة الثقة الوطنية للشعب الروسي، خاصة في التوجهات الخارجية لروسيا.
2- إعادة الثقة الداخلية في الاقتصاد الروسي، ليكون خطوة أساسية في التحرك الاقتصادي الروسي الخارجي.
3- إعادة بناء مؤسسات الدولة خاصة الأمنية والعسكرية بما يعزز الأمن الوطني الاستراتيجي.
4- التأسيس لشخصية روسيا المستقبلية، والتي بُنيت على معالجة الصورة السلبية التي خلّفتها فترة حكم الرئيس السابق بوريس يلتسين.
ويمكن تلخيص ملامح المستقبل الروسي، في الآتي:
1- بناء عقيدة سياسية وعسكرية روسية جديدة، تعتمد على مواجهة السيطرة الكونية الأميركية «متعددة المجالات» والعودة إلى عالم متعدد الأقطاب.
2- قيادة روسيا «بالشراكة مع الصين» لمستقبل الاقتصاد العالمي، وفق فلسفات جديدة تستبعد المكونات الرأسمالية التقليدية.
3- الشراكة الاستراتيجية «الاندماجية» مع دول أوروبا وتحييد الحضور الأميركي، خاصة من خلال «الناتو».
4- بناء الاتحاد الاقتصادي «الأوراسي» مع دول آسيا الوسطى، وتجاوز الإجراءات المعقدة لتحقيقه.
5- بناء شراكات اقتصادية «ثنائية» في مجالات الطاقة مع دول الشرق الأوسط وخاصة دول الخليج العربي، وشراكات «ثنائية» مع طرف ثالث (الصين)؛ لتعميق التوجه الروسي – الصيني لقيادة الاقتصاد العالمي.
التحديات الرئيسية: ظهرت جملة من التحديات التي تواجه المستقبل الروسي «السياسي والاقتصادي في محيطه الدولي الأممي» والتي بطّأت خطوات العمل لتحقيق هذا المستقبل، ومن جانب آخر عدّلت في مساره خاصة في تقاطعه مع المشروع الاقتصادي الصيني، ويمكن اختزال ذلك في المحاور التالية:
أولاً: طريق الحرير والحزام الاقتصادي: يندرج مشروع طريق الحرير في سياق الشراكة الاستراتيجية «الصينية الروسية»، ولكنه من جانب آخر يمثل تحدياً عميقاً للمشروع الروسي (الاتحاد الاقتصادي الأوراسي) والذي تسعى من خلاله روسيا إلى لملمة مصالحها الاقتصادية ذات الطابع الجيوسياسي الاستراتيجي الروسي، إذ تأكد بشكل يقين استحالة التفكير في العودة إلى اتحاد شامل «فيديرالي أو كونفيديرالي» يجمع روسيا وعدداً من الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي.
والتعقيدات في المشروع الصيني، مقابل المشروع الروسي، أن المشروع الصيني من محورين «طريق الحرير، والحزام الاقتصادي المحيط به»، ومن جانب آخر فإن للمشروع الصيني خمسة طرق رئيسية تمر بأكثر من 60 دولة (أوروبية – آسيوية – أفريقية)، ثلاثة طرق بحرية وطريقان بريان، وشمولية هذا المشروع العملاق يعرقل المشروع الروسي (الاتحاد الاقتصادي الأوراسي)، لذا تأخرت روسيا سنتين (2013 – 2014) قبل قبولها الانضمام للمشروع الصيني، وبعد مباحثات رئاسية تم التوقيع أثناء زيارة الرئيس الصيني لروسيا في 2015م على اتفاق التعاون في إطار مشروع الحزام الاقتصادي، وجاءت الموافقة الروسية لاعتبارين رئيسيين:
1- أن روسيا تمثل المحور الرئيسي في المشروع الصيني، إذ إنها الممر الرئيسي لخطوط الطريق إلى العالم، إلى جانب أنها خط النهاية لعدد من محاوره «مستفيد مباشر».
2- العقوبات الأميركية/الأوروبية التي قللت من إمكان وصول روسيا بسهولة إلى الأسواق العالمية والأوروبية على وجه الخصوص.
فكان «المشروع» أحد الخيارات الاستراتيجية الرئيسية للمستقبل الاقتصادي الروسي، وهذا نموذج لتحويل التحديات والعقبات إلى منافع.
ثانياً: المؤسسات السياسية الأوروبية القائمة على الليبيرالية والاندماج: المصلحة الروسية المباشرة تتمثل في تفكك بُنى المؤسسات الأوروبية الجمعية التي تمثل الاتحاد الأوروبي، والتي في الأساس تواجه، خاصة السياسية منها، مجموعة من الإشكالات التي تهدد استمرارها، أو على الأقل استمرار فاعليتها، ولا سيما أن الاتحاد الأوروبي توسّع في دول العضوية وفق مشتركات «بنيوية وسياسية واقتصادية متباينة ومتناقضة»، ونتج عنه نمو وتطور في الشق الأوروبي الغربي خلافاً للمشكلات المتراكمة للشق الشرقي، ومرحلياً من مصلحة روسيا أن تتجه المؤسسات الأوروبية إلى الضعف والتداعي المرحلي (على غرار بريكست)، كونها ستدفع دول الاتحاد إلى الانسجام التدريجي مع المشروع الروسي المتنامي في القوة والتأثير، فتكون روسيا بديلاً «جزئياً أو مرحلياً».
المسار الآخر الذي قد تعمل عليه روسيا، التحرك أوروبياً من خلال القوى الأوروبية اليمينية، التي تلتقي مع الفكر الاستراتيجي الروسي، والتي تتناقض مع الخيارات الاستراتيجية الأميركية، وهنا مكمن القوة في الاتجاه الروسي أوروبياً.
ووفقاً لأيٍ من الخيارين، ستكسب روسيا إضعاف مكونات «الناتو» والذي تعوّل عليه الولايات المتحدة كثيراً لتنفيذ أجنداتها في العالم، خاصة مناطق النفوذ الاستراتيجي الروسي.
الخلاصة: الحل الروسي يتمثل في: ضعضعة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، والانطلاق من ملامح اليمينية المتطرفة في أوروبا.
ثالثاً: الارتداد الأميركي لحماية مصالحها «عسكرة الاقتصاد»، تحكم التحرك الأميركي دولياً ثلاثة اتجاهات:
1- ملامح الاكتفاء الأميركي من الإنتاج النفطي المحلي، ومنافستها للمنتجين التقليديين (السعودية وروسيا)، وهذا يمنح أميركا مرونة في التحرك من دون أي اعتبارات للمصالح التقليدية، خاصة في منطقة الخليج.
2- الخطوات المتسارعة للمشروع الصيني الاقتصادي (طريق الحرير) ومن ورائه تحالف/ منظمة الأمن والتعاون/شنغهاي، والذي سيمثل تحدياً استراتيجياً للهيمنة الاقتصادية الأميركية، وانعكاساته على مسارات الهيمنة الأمنية والسياسية.
3- ملامح الانكفاء الأوروبي والانشغال بالمشكلات الاقتصادية الأوروبية وشعورها بعدم جدوى حلف «الناتو»، إن لم يكن عبئاً على أوروبا.
هذه الاتجاهات أو المسارات استدعت ما يمكن تسميته «عسكرة الاقتصاد الأميركي»، سواء في حماية مصالحها الاقتصادية بالقوة العسكرية أم استخدام القوة العسكرية كأداة لدعم الاقتصاد من خلال أساليب عدة، أقلها تأجيج الصراعات لتحقيق المصالح الاقتصادية، هذا التوجه الأميركي يستدعي حضوراً ووعياً روسياً؛ لإدراك المدخلات والمخرجات للتعامل مع الفوضى الأميركية، والتحرك وفقاً لمعطيات دقيقة تقوم على بؤر الارتباك الأميركي في بعض الملفات.
رابعاً: الجنوح الإيراني المتزايد من مزار شريف إلى سورية: يتمثل في إحراج الشركاء الاستراتيجيين، خاصة روسيا، من السلوك الإيراني، وفق اتجاهين:
1- التأثيرات السلبية في العمق الاستراتيجي لروسيا (مناطق النفوذ الروسية في آسيا الوسطى والشرق الأوسط) من خلال التمدد الجيوسياسي الإيراني، وأميز هذه الشواهد التأسيس لوجود عسكري/بحري إيراني في البحر المتوسط من خلال سورية ومزاحمة القاعدة الروسية في طرطوس.
2- إحراج روسيا بشكل مستمر، في الوقوف موقف الدفاع عن السلوك الإيراني الجانح بعيداً عن الاعتبارات والقوانين الدولية (الملف النووي، اقتحام السفارات، خلق البؤر الطائفية، وإذكاء مناطق الصراعات).
هذا السلوك «غير المنضبط» لإيران يُربك التحرك الروسي المتوازن في سياق مشروعها الاستراتيجي، وخاصة في حاجتها لبناء علاقات استراتيجية مع دول لها نقاط تماس مع إيران (كالمملكة العربية السعودية وحالة العداء الإيراني المتزايد تجاه السعودية، والإمارات خاصة ملف الجزر الإماراتية)، ومن جانب آخر تُدرك روسيا أن لإيران مشروعها القومي الاستراتيجي، والذي سيتقاطع سلبياً مع المشروع الروسي في مسارات متعددة، ستظهر ملامحها السلبية في المراحل التطبيقية القريبة، بمعنى أن روسيا قد تدخل في مرحلة تصادم فعلي مع إيران في أكثر من ملف، وحينها إيران تكون قد استقوت بعناصر عدة، منها: «إعادة التموضع في الشرق الأوسط»، «التوغل في منظمة شنغهاي».
الخلاصة: خطورة تكوّن حزام شيعي طائفي، وخطر التأسيس لبؤر طائفية في الداخل الروسي، ومحيطه الاستراتيجي.
خامساً: الطموح التركي للعودة لقيادة العالم الإسلامي: هذا التحدي من نوع آخر، يأتي وفق مسارات لروسيا يدٌ في صناعتها:
1- استخدام تركيا كأداة لمواجهة التحركات والضغوط الأميركية، في مناطق النفوذ الروسية (سورية – ليبيا) تحت مسميات (الأكراد في سورية، ودعم شرعية السراج في ليبيا أمام رجل أميركا/حفتر)، وبهذا تم تمكين تركيا من الحضور الفاعل في ملفات الشرق الأوسط: بعباءتها السنّية.
2- دعم التمرد التركي تجاه أميركا، ومساندته، بـ(التسليح والتصنيع العسكري/ S400 ـ وطائرات سوخوي الروسية، بديلة عن / F35 الأميركية)، وهذا من جانب تكتيكي يعتبر اختراقاً للنظام الأمني لـ«الناتو»، وهذا بشكل غير مباشر يعزز الحضور التركي في الشعور الإسلامي السني، كدولة تواجه الصلف الأميركي في دعم إسرائيل.
التحدي الروسي هنا: كيف ستخترق روسيا التأثير السني التركي للعمق الإسلامي في روسيا، وكيف ستتمكن من تحييده، (وهو عمق سني، بملامح أتراكية، وسلوك صوفي تعبدي في كثير من مناطقه)، فتركيا دولة ترعى مشروعها القومي الذي يمثل الاتجاه الآخر للمشروع الإيراني، وكلاهما يمثل تحدياً استراتيجياً للمشروع الروسي.
الخلاصة: عباءة الإسلام السني التركي والعمق الإسلامي السني في روسيا.
خلاصة القول: للمشروع الروسي ملامحه الواضحة، وبرامجه الفاعلة، وخطواته الجريئة، ومقوماته الفاعلة، وفي المقابل، أمامه جملة من التحديات، بعضها بصنيعة روسية كـ «إجراءات تكتيكية» تتطلبها المرحلة، فكيف ستعمل روسيا على تحييدها، وهل ستؤدي إلى مواجهة روسية لبعض مسارات المشروع الإيراني من جانب، ومسارات المشروع التركي من جانب آخر؟
سنرى…

ماجد بن عبدالعزيز التركي – رئيس مركز الاعلام والدراسات العربية الروسية – صحيفة الحياة