مع تعرض اللوحات الزيتية ذات القيمة العالية لتشققات ناجمة عن مرور الزمن يكون الحل لدى المختصين لمنع تدهور شكلها العام من خلال ملء التشققات بخليط من الزيوت ، لكن عند تعرض اللوحة للتمزق يقف المختصين مكتوفي الأيدي فما كسر لا يمكن إصلاحه ، هذا التشبيه هو الأقرب للأثر الذي أحدثته جرافات تنظيم «الدولة الإسلامية» عندما هدمت الساتر الترابي على الحدود السورية العراقية منتصف العام 2014 .
فما تمثله هذه الحدود من اتفاقات دولية أصبحت من الماضي و الحل يكون بوضع تركيبة جديدة لجغرافيا المنطقة ، فشرق الفرات أصبح كردياً بغطاء غربي بينما تحولت مدن الفرات الخصب على ضفته الغربية وكراُ و هدفاً للمشرع الإيراني التوسعي ، ما بين هذا و ذاك يعيد تنظيم «الدولة الإسلامية» ترتيب أوراقه بحثاً عن بدايته الجديدة ، ضمن هذا التصور يمكن القول أن الفرات الرطب قد يكون خطاً لنار هجيجها في الجغرافيا السورية فيما قرارها أبعد من ذلك .
تعقيدات الانسحاب
بالرغم من محاولة ترامب التهرب من تعقيدات الانسحاب من الشرق السوري عبر الذهاب باتجاه الانسحاب السريع إلا أن الضغوطات الداخلية من ممثلي الحزبين الجمهوري و الديمقراطي بالإضافة لضغوطات خارجية على رأسها تل أبيب جعلته انسحاباً مؤجلاً ليتم تسليم جيمس جيفري قيادة هذا الملف من خلال ايجاد صيغة ميدانية و إقليمية و دولية تسمح لترامب بسحب معظم قواته من الشرق السوري دون أن يختل التوازن العسكري هناك ، و بالفعل انطلق جيفري في جولات مكوكية و اتصالات مباشرة مع الحلفاء غربيين و عرب و أتراك و بينما كان يضع لمساته الأخيرة على خريطة طريق الانسحاب كان مستشار ترامب للأمن القومي بولتون يضع نقاطه الخاصة و التي تشمل شرق الفرات و غربه .
في البداية يجب التأكيد على نقطتين مهمتين هما جوهر و سبب الوجود الأمريكي في شرق الفرات ما بعد 23 من آذار/مارس الماضي ( موعد إعلان قوات سوريا الديمقراطية نهاية معركة الباغوز ) الأول هو التخوّف من عودة تنظيم «الدولة الإسلامية» فبالرغم من الوجود الأمريكي تعيش هذه المناطق حالة أمنية متدهورة تؤكدها الاغتيالات و التفجيرات المستمرة.
أما السبب الثاني فهو التخوف من انشاء ايران ممراً برياً يصل طهران ببيروت مروراً عبر الجغرافيا السورية ( هذا التخوف نابع عن الرؤية الإسرائيلية ) و بناءً على هذين السببين يمكن قراءة التحرك الأمريكي المقبل .
رؤساء الأمن القومي
في القدس اجتمع رؤساء الأمن القومي الأمريكي و الروسي و الإسرائيلي بداية هذا الشهر و الملف السوري كان محور هذه القمة ، فتأكيدات موسكو لإيجابية هذا الاجتماع و نجاح الأطراف الثلاثة الوصول لتوافق يشمل عددا من النقاط ضمن هذا الملف لا يعكسه الواقع ما بعد القمة ، فقاعدة حميميم الروسية على الساحل السوري أطلقت تشويشاً على نظام الـ ( جي بي اس ) مما أدى لتأثر العديد من مطارات المنطقة على رأسها مطار بن غوريون في تل ابيب ، هذه الخطوة لا يمكن قراءتها إلا من منظور التصعيد الروسي تجاه التحركات الإسرائيلية في السماء السورية ، و في الجهة المقابلة أكدت الرسالة المشتركة من قبل مندوبي باريس و واشنطن للمبعوث الدولي بيدرسون و التي تشير أن مسار أستانا و تشكيل اللجنة الدستورية لا يقدمان حلاً سياسياً مناسباً للملف السوري ، هذه الخطوة الأمريكية تؤكد بما لا شك فيه وجود خلاف عميق بين إدارة موسكو و إدارتي واشنطن و تل ابيب ضمن الملف السوري بشكل عام ، فيما انعكست نتائج هذه القمة ميدانياً من خلال ما تناقلتها وسائل إعلامية إسرائيلية و التي أكدت أن تل ابيب وجهت برسائل تحذير للجانب الروسي توجب ابتعاد قواتهم عن مواقع النفوذ الإيراني في الشرق السوري ، مما يفتح المجال أمام سيناريوهات جديدة على ضفتي الفرات .
ما بعد هذه القمة الهامة يمكن لنا ربط بعض الأحداث معاً لفهم مستقبلية المشهد أكثر ، بما لا شك فيه فإن إدارة ترامب التي نقلت سفارتها من تل ابيب للقدس و تعمل جاهدة لإنجاح ما يسمى بصفقة القرن بشتى الوسائل ، لن تدخر جهداً لإنهاء أي تخوف لدى إدارة نتنياهو ضمن الجغرافيا السورية و هذا يشمل الممر البري الإيراني على الحدود السورية العراقية ، فالعديد من المواقع المختصة بصور الأقمار الاصطناعية نشرت قبل أسابيع صوراً لمعبر بري خاصاً بطهران يربط سوريا في العراق ( جنوب مدينة البوكمال السورية) ، هذا المعبر قد يعتبر أمريكياً و إسرائيلياً نقطة تحول قد تدفع واشنطن في سبيل إرضاء تل ابيب نحو عمل عسكري جديد لم يكن في الحسبان .
ترى العديد من المعاهد العسكرية المقربة من وزارة الدفاع الأمريكية أن الوجود الحيوي لعناصر تنظيم الدولة الإسلامية في منطقة البادية السورية خطر لا يمكن التهرب منه ، ففي ظل انشغال روسيا و الأسد في محاولة إنهاء الوجود العسكرية للمعارضة السورية المسلحة في إدلب ما حولها ، مع عمل إيران الدؤوب تثبيت نفوذها في مدن غربي الفرات عسكرياً و ايديولوجياً فإن واشنطن قد تكون مضطرة لضرب عصفورين بحجر واحد ، الأول إنهاء خطر تنظيم الدولة الإسلامية مستقبلياً على مناطق شرق الفرات و الثاني قطع الطريق على طهران لمنعها انشاء ممر خاص بها ، إلا أن هذا التصور و هذه الخطوة ستعني نقيض ما توحيه زيارات جيفري في المنطقة .
تأثير العقوبات
أما في طهران فإن تأثير العقوبات الاقتصادية الأمريكية بدأ بأخذ مفعوله يوماً بعد يوم ، ففي ظل تعنت خامنئي شخصياً ورفضه أي نوع من التفاوض المباشر تحت العقوبات يمكن القول أن الجنرال سليماني أصبح أكثر حرية لتوجيه ضربة عسكرية ذات تأثير أكبر ضد المصالح الأمريكية ، فقد نشرت وكالة الأناضول التركية قبل أيام أن الجنرال سليماني قد زار مدينة البوكمال مؤخراً و اطلع بشكل شخصي على التجهيزات العسكرية للحرس الثوري و حلفائه من الميليشيات المحلية هناك مما يضع إشارة استفهام عن سبب هذه الزيارة ، فهل طهران بدأت تستشعر إمكانية تحرك أمريكي نحو غرب الفرات أم أنها رسالة لواشنطن مفادها أن طهران قادرة على استهداف الوجود الأمريكي ضمن مناطق شرق الفرات كرد على العقوبات الاقتصادية ؟؟
رجل حرب
في ملف الأخذ و الرد الأمريكي الإيراني مؤخراً يمكن لنا كباحثين أن نبني تصوراتنا للمشهد بشكل عام تبعاً لرؤية قادة الدولتين ، ففي واشنطن رؤية ترامب كرجل اقتصاد مع سطحية سياسية تجعل منه أبعد ما يكون برجل حرب ، فيما تسيطر لغة الحرب على رؤية القيادة الإيرانية كوسيلة للنفوذ أو حتى عند الذهاب للسلام ، إلا أن جميع هذه المرتكزات للإدارتين تصبح غير منطقية عندما يتعلق الأمر بتل ابيب ، فإيران تسقط طائرة أمريكية دون الاكتراث للرد الأمريكي و تختطف سفينة نفط بريطانية غير مبالية برد لندن ، غير أن الطائرات الإسرائيلية تتنزه في السماء السورية ( و العراقية مؤخراً ) قصفاً و تدميراً لقواعد الحرس الثوري الإيراني فيكون صمت القبور رد طهران الوحيد ، أما في واشنطن فيختار ترامب ارضاءً لتل أبيب الغاء الاتفاق النووي مع طهران رغم علمه المسبق بخطورة هذه الخطوة ، ضمن هذا التصور اللامنطقي فإن انتقال واشنطن من خطط الانسحاب من الشرق السوري نحو عملية عسكرية تربط بها القوات الأمريكية مناطق انتشارها في شرق الفرات مع قاعدة التنف أمر ممكن ، أو أن تحوّل طهران وجودها في سوريا من حبل نجاة الأسد لحبل مشنقته من خلال جره لحرب طرفها الآخر أمريكي و إسرائيلي تصرفاً منطقياً.
إيفا كولوريوتي – محللة سياسية يونانية مختصة في شؤون الشرق الأوسط – القدس العربي