دمشق °C

⁦00963 939 114 037⁩

رأي – اللاجئون السوريون في تركيا بين “الاحتلال الصامت” و”التطبيع الصامت”

بين “احتلال صامت” و”تطبيع صامت” تتزايد الإشارات إليه يجد اللاجئون السوريون في تركيا أنفسهم عالقين في خيارات محدودة يعيشون في قلق التفكير في الغد والمجهول الذي ينتظرهم وينتظر أطفالهم.
الحلقة الأضعف في المعادلة السورية
حرب حقيقية تدور رحاها هذه الأيام في الأوساط السياسية والإعلامية التركية حول ملف اللاجئين السوريين الذي رأى البعض أنه يمرّ في مرحلة هي الأخطر منذ تدفقهم عبر الحدود السورية – التركية قبل أعوام. الخطورة هذه المرة متأتية من كون الملف تجاوز مسألة الاستثمار السياسي إلى المشاريع الممنهجة لإعادتهم إلى بلادهم، كما جاء على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أعلن عن مشروع إعادة مليون لاجئ سوري وتسليم مفاتيح لبيوت ضمن مجمعات سكنية تأويهم في الشمال السوري. وجاءت تصريحات أردوغان في مكالمة فيديو، خلال مراسم تسليم مفاتيح ما سمّيت بمنازل “الطوب” في إدلب، بالتنسيق مع إدارة الكوارث والطوارئ “آفاد”، بالتعاون مع المجالس المحلية السورية. المشروع لن يقتصر على إدلب وحدها بل سيشمل مناطق أخرى في الشمال السوري الذي تسيطر عليه المعارضة المدعومة من تركيا، من بينها 13 منطقة في جرابلس والباب وتل أبيض ورأس العين.
بالتوازي مع ارتفاع حدة الخطاب الناقم على السوريين في تركيا، تظهر تسريبات تتحدث عن نوايا لدى الحكومة التركية رفع التنسيق الأمني القائم حاليا مع نظام الأسد إلى مستوى تنسيق سياسي أو نوع من “التطبيع” كما سماه بعض المعارضين الأتراك، وذلك بالذريعة ذاتها الأمن وملف اللاجئين السوريين.
تصريحات نارية وتهديدات متبادلة بين أعضاء بارزين في الحكومة، مثل وزير الداخلية سليمان صويلو وسياسيين معارضين كرئيس حزب النصر القومي أوميت أوزداغ الذي بلغت حدّة المناوشات بينه وبين صويلو إلى درجة توجيه وعيد وعبارات تقريعية يتصاعد معها الخطاب العنصري ضد اللاجئين السوريين، مع اقتراب الانتخابات وحمى الصراع على أصوات الناخبين، لكن مصادر كشفت أن ذلك الخطاب لا يتخذ طابع القنابل الصوتية الشعبوية وحسب، بل هو خطاب ممنهج وممول، وقد اعترف أوزداغ بذلك حين قال إنه اطلع ووافق على سيناريو فيلم قصير مناهض للاجئين السوريين قبل أن يقوم بتمويله شخصيا، فيلم حمل عنوان “الاحتلال الصامت” يحذّر من خطر سيطرتهم على الدولة التركية في المستقبل القريب.
هل تحتاج تركيا لحليف سوري إضافي، غير المعارضة السورية التي تمسك بزمامها للإطباق على تأثير العامل الكردي؟
ومنذ تفجر الأوضاع في سوريا عام 2011 تم منح نحو 300 ألف لاجئ سوري الجنسية التركية، حسب الوزير صويلو الذي يشير إلى أن 47 ألفا من بين هؤلاء هم من “التركمان” السوريين، بينما يصل العدد الكلي للاجئين السوريين على الأراضي التركية الذين يحملون وثائق “الحماية المؤقتة” إلى ثلاثة ملايين و762 ألفا، من بينهم 700 ألف طفل ولدوا هناك، بينما عاد 500 ألف سوري إلى بلادهم عودة طوعية، وفقا لأرقام صويلو.
خالد خوجة رئيس الائتلاف السوري المعارض سابقا، والذي انضم إلى حزب رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو المعارض وغيّر اسمه إلى ألبتكين هوجا أوغلو، فجّر بدوره المزيد من التساؤلات حين غرّد في الأيام الماضية متهما الرئيس التركي والدوائر المحيطة به بالشروع في مسار تطبيع مع النظام السوري، وقال خوجة إنه “بعد الضوء الأخضر من أردوغان؛ قيادات الحزب الحاكم في تركيا تبحث تطبيع العلاقات مع دمشق ضمن جهود إعادة اللاجئين (الطوعية) بذريعة تأثيرهم على غلاء المعيشة في المدن الكبرى. والتخريجة: لا يجب النظر إلى الموضوع من باب الصلح مع الأسد بل العلاقات مع سوريا”، مشيرا إلى ما نشرته صحيفة “ملييت” التركية حول نقاشات تجري في أروقة حزب العدالة والتنمية الحاكم عن اقتراب مرحلة من التطبيع مع النظام السوري مشابهة لتلك التي تجري مع السعودية ومصر وإسرائيل وأرمينيا والإمارات.
لكن على ماذا تتلاقى المصالح التركية مع نظام الأسد في هذه المرحلة بالذات بعد طول انقطاع؟ المناطق التي يتحدث عنها الطرفان التركيان، الحاكم والمعارض، والتي يمكن إعادة اللاجئين السوريين إليها، هي خارج نطاق سيطرة الأسد، وتأثيره معدوم تماما عليها إلا في حال تغيّرت الأوضاع الميدانية وتم كسر التفاهمات والاتفاقات الأمنية المشتركة بين موسكو وأنقرة، بشنّ حرب روسية جديدة لإعادة تلك المناطق إلى حظيرة الدولة المركزية التي يحكمها الأسد من دمشق كما حصل مع مدينة حلب وغيرها. أما العمق السوري فلم يتحدث أحد عن إمكانية لإرغام السوريين على العودة إليه، لاسيما في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة التي يفرضها قانون قيصر وحزمة العقوبات المطبقة على نظام الأسد. عدا عن الأوضاع الخطرة التي ما يزال العالم يعتبرها كذلك بالنسبة إلى المواطنين. وقرار الأسد بالعفو عن معتقلين متهمين بدعم الإرهاب وإطلاق سراح العشرات منهم ومشاهد عائلاتهم وهي تنتظرهم تحت جسر الرئيس في قلب العاصمة دمشق، جاء كمحاولة للتغطية على الفيديو الذي سرّبته الغارديان البريطانية في توقيت حسّاس، والذي يوثق مجزرة بشعة نفذها عناصر النظام السوري بحق المدنيين في حي التضامن، لكنه أيضا في سياق ما يحاول الأسد إشاعته مؤخرا من تغييرات تتلاقى مع التغييرات التي تقوم بها الدول المحيطة به.
هل تحتاج تركيا لحليف سوري إضافي، غير المعارضة السورية التي تمسك بزمامها للإطباق على تأثير العامل الكردي الذي لم يعد حزب العمال الكردستاني واجهته الكبرى في الساحة الداخلية التركية؟ ومع الأخذ بعين الاعتبار أن حزب الشعوب المتحالف مع بعض الأحزاب التركية المعارضة يعتبر نفسه امتدادا لـ”بي.كي.كي” وتطورا طبيعيا له، فإن خارطة التناقضات والتحالفات في تركيا تبدو أكثر تعقيدا على المعارضة بقدر ما هي كذلك على الحزب الحاكم، إذ أن أي انزياح بهذا الاتجاه أو ذاك سيسقط أصحابه في محور الإرهاب أو يلزمهم بوضع اليد مع العدالة والتنمية والتحالف معه في المعركة الانتخابية القادمة، وفي ظل خارطة كهذه ما هو التأثير المحتمل للأسد والتطبيع معه على العملية الانتخابية؟
لا يصح تناول موضوع التطبيع التركي مع الأسد دون النظر إلى التعقيدات الجيوسياسية المحيطة بسوريا وتركيا، وعلى رأسها الحرب الروسية على أوكرانيا
يتبقى احتمال آخر لا يريد الأتراك ولا السوريون الالتفات إليه، والذي قد يكون التطبيع مع الأسد فيه متمثلا في مطلب من مطالب الدول المحورية التي تعيد ترتيب علاقاتها مع تركيا، لتطبيق استراتيجية شاملة لحلحلة قضايا المنطقة العالقة لسنوات. لكن ما حققته تركيا على مستوى أمنها القومي يتجاوز المسألة السورية، فقد تمكنت من تأمين منطقة نفوذ واسعة قطعت الطريق على مشاريع الأكراد الانفصالية التي تعتبرها تركيا تهديدا وجوديا لها ككيان مستقر، انطلاقا من ملف حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تركيا العدو الأول للدولة والمجتمع في الوقت ذاته، ويوشك النظام السوري أن يفك عرى تحالف وثيق معه استمر لسنوات ضمن الطرفان خلالها السيطرة على ثلاث محافظات سورية غنية في الشمال والشمال الشرقي من البلاد. إذاً يبقى ملف اللاجئين هو الملف الوحيد الذي يمكن أن تروّج المعارضة التركية صلاحيته ليكون منطلقا للحوار التركي – السوري.
لا يصح تناول موضوع التطبيع التركي مع الأسد دون النظر إلى التعقيدات الجيوسياسية المحيطة بسوريا وتركيا، وعلى رأسها الحرب الروسية على أوكرانيا والمواقف الدولية المستجدة والطوق الحديدي الذي ضربته الولايات المتحدة والغرب على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، طوق لن يكون رفعه أمرا يحصل بين يوم وليلة حتى لو أوقف بوتين عملياته العسكرية ضد أوكرانيا في هذه اللحظة. فما تغير قد تغيّر وانتهى الأمر وقد خلق معه واقعا عالميا جديدا لن يكون غريبا فيه ما كشف عنه الصحافي التركي عبدالقادر سيلفي على شاشة “سي.أن.أن” من أن بوتين “منع أنقرة من لقاء الأسد من أجل مناقشة قضايا اللاجئين السوريين”، وهذا يُفهم منه أن الروس ليسوا جاهزين حاليا لتغيير “مؤثر” في قواعد الاشتباك في الملف السوري وسط انشغالهم بالملف الأوكراني.
وبين “احتلال صامت”، عبّر عنه فيلم أوزداغ، و”تطبيع صامت” بين تركيا والأسد تتزايد الإشارات إليه، يجد اللاجئون السوريون في تركيا أنفسهم عالقين في خيارات محدودة، فالبعض منهم حصل على الجنسية التركية وبات يعتبر تركيا وطنه الثاني، كما في حالة عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين ممن حصلوا على الجنسيات الأوروبية خلال الأعوام الماضية. إلا أن غالبية ساحقة من السوريين في تركيا ما تزال تعيش قلق التفكير في الغد والمجهول الذي ينتظرها وينتظر أطفالها في حال تم إجبار هؤلاء على العودة بطريقة أو بأخرى، ومن جانب آخر المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في حاجة إلى تنمية سكانية واقتصادية وتربوية، وإلا تحولت إلى بؤر توتر وفوضى لا يعلم أحد كيف تمكن السيطرة عليها مستقبلا. فمن سيقوم بتلك المهمة؟ واليوم لا يتوقف الأمر على المطالبات بالعودة التي تسمى الآن “طوعية”، بل إن التضييق المحتمل على ظروف اللاجئين السوريين المعيشية ومعاملاتهم الرسمية قد يكون نوعا من الدعوة إلى عودة “إجبارية” مرهونة بنتائج الانتخابات من جهة، ومسار السياسة الخارجية التركية في محيط وعر من جهة ثانية.

إبراهيم الجبين – كاتب سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة