خلت مناهجنا المدرسية وكذلك إصدارات وزارات الأوقاف والثقافة والإعلام من أي ذكر لواقعة كربلاء أو حادثة الطفّ، رغم أننا نرفل في العيش الحر الكريم تحت ظلال الهواشم. أول من عرفني كطالب جامعي أردني بما جرى للحسين وأهله ورفاقه كان المرحوم العلامة حقا خلقا وعلما الأستاذ الدكتور سحبان خليفات. “انسوا ما تعلمتموه في المدارس”… “كثيرا من تاريخنا الحقيقي إما مغيب أو مشوه أو مزور بالكامل”.
كانت كلمات المرحوم خليفات في مستهل محاضرته الأولى في مادة عن تاريخ الحضارة العربية الإسلامية. راغبا باستزادة، سجلت مادة أخرى في الجامعة الأردنية (أم الجامعات في الأردن) حول الموضوع ذاته، لكن على يد أستاذ متخصص في علم الاجتماع.
كان أيامها التعليم يعلي من شأن البحث والتفكير والتعبير الحر، فقمت بتقديم محاضرة بتكليف من أستاذي حول الأفكار النقدية لقيم الحرية والعدالة في بدايات التوسع الإسلامي خارج شبه الجزيرة العربية ومنها العراق والشام. محاضرة بدت في نظر زميل ليس بيننا سوى الحد الأدنى من مجاملات الزمالة الجامعية، بأن يهمس في أذني قلقا: أأنت شيعي شيوعي؟ سرعان ما بددت قلقه هذا بضحكة مدوية لا زلت أذكرها منذ ثلاثة عقود ونيّف!
لكن للإنصاف، أعدت النظر في تسرع حكمه عليّ بعدما قرأت عن تبني آلاف الشيعة للفكر الشيوعي أو انتمائهم للأحزاب الشيوعية والاشتراكية على أمل كف يد الأذى عنهم كأقلية من جهة وتلبية أشواقهم للحرية والعدالة من جهة أخرى. وتلك مشاعر ومواقف انسحبت أيضا على كثير من الأقليات من بينها غير المسلمة (ميشيل عفلق) وغير العربية (خالد بكداش).
من المحيط الأكاديمي إلى المهني، وبينما كنا في غرفة أخبار التلفزيون الأردني نرصد المواد المرسلة عبر الأقمار الصناعية لوكالتي رويترز والأسوشييتيد برس، صعقنا من هول ما رأينا في ملف إخباري مصور دون تعليق مرافق بث مشاهد حول إحياء أربعينية الحسين (عليه السلام – رضي الله عنه).
مرة أخرى، همس في أذني أخ مسيحي متسائلا عن احتمال قلب أب لشطب جبهة طفله الصغير بسكين فيما يرى ذلك الطفل أباه وأهل بيته من الرجال يجلدون بالجنازير ظهورهم على مشهد من لطم النساء ونحيبهم على ذبح الحسين وأسر نساء العترة المحمدية على أيدي من تتبع أسماؤهم حتى يومنا هذا بالمقولة “الفصامية أو المنافقة” – رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين؟!
من الأكاديمية إلى المهنية الإعلامية، فالهجرة والاغتراب إلى بلاد لا يقبل “المسلّمات” وإن كانت شوارع في واشنطن وديترويت مثلا قد شهدت مواكب حسينية خلت ولله الحمد من السيوف والجنازير رغم أن منظميها ممن يتراسلون فيديوهات دامية لمواكب مماثلة في الوطن الأم – خاصة في إيران والعراق وسوريا ولبنان والبحرين وشطر من اليمن!
ترددت كثيرا في الخوض في هذا الموضوع خاصة من على منبر مقالة، لكن ما استفزني أكثر من الدماء المسالة هدرا – بدلا من التبرع بالدم كما دعا كثير من مراجع الشيعة ومنهم الخوئي والوائلي رحمهما الله، ما استفزني مشهد تقبيل أقدام الزوار الإيرانيين بعد غسلها وتدليكها من قبل “خدام” الحسين وزواره من العراقيين.
هذا مشهد ليس بجلال ما يعرف بطقس “غسل الأقدام” في “خميس الأسرار” الذي قام به السيد المسيح لحوارييه قبل صلبه (الجمعة) وقبره وقيامته (الأحد) بحسب الإيمان المسيحي. لعلها جينات أجدادي الذين كانوا شيعة في حلب الشهباء ومسيحيين في الطائف قبل أن يسجلنا المحتلون العثمانيون القدامى كعشيرة من عشائر “العرب السنة” في بلاد الشام عبر ضفتي نهر الأردن الحبيب.
لن تقوم قائمة للدول التي تشهد هذه المشاهد الدامية والمهينة، ما لم تنبذ الجانب الدخيل المزور للكربلائية السياسية-الاجتماعية-الفكرية. فما قام به الحسين ومن قبل المسيح كان الفداء والتضحية والمحبة والاتضاع والخدمة.
كلاهما كانا يعلمان نهايات الأمور من منطلقات مختلفة ولغايات مغايرة. لكنهما علما المؤمنين بهما بأن الفارق كبير وكبير جدا بين السكينة والذلة. فهيهات “هيهات منّا الذلة” ليست نداء انفعاليا بقدر ما هي عزم وعزيمة..
الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي بشار جرار – أوغاريت بوست