تدافع بعض القوى الإقليمية والدولية نحو دمشق ينطوي على رغبة في إمكانية حدوث تغيير من الداخل استنادا على سلاحي العقوبات والإغراءات أو العصا والجزرة كما يطلق عليها في بعض الأدبيات.
القاهرة احتضنت الشوام.. فهل تحتضن حكومتهم
يشعر المراقبون للموقف المصري حيال الإدارة السورية الجديدة، أو بحكومة الأمر الواقع في دمشق كما يسميها البعض، أن هناك عقدة رئيسية مختلفة عن تلك العقد العربية والدولية الأخرى المعلنة، جعلت القاهرة أكثر حذرا من غيرها في الانفتاح على دمشق، فالكل يتحدث عن علاقة هيئة تحرير الشام بتنظيمات متطرفة، والحفاظ على وحدة البلاد وأمنها واستقرارها، ومشاركة شاملة للأطياف السورية، لكن مصر لديها مشكلة خاصة أيضا تتعلق بركيزة الشرعية التي يقوم عليها نظامها، إذ يستند على رفض التعامل مع أيّ جماعات متشددة، وتاريخ الهيئة شاهد على ذلك.
تفيد بعض الإشارات القادمة من دمشق بوجود تطمينات في الخطاب العام للإدارة الجديدة، لكنها ليست كافية من وجهة نظر القاهرة حتى الآن، وثمة رسائل تصب في الاتجاه العكسي وتزعج القاهرة، ومهما أظهرت هذه الإدارة من نوايا حسنة تجاه مصر سوف تظل عقدة العلاقة بالتنظيمات المتطرفة في الخلفية، ولن يتم شطبها.
وكل المطالب التي وضعتها دول عديدة بشأن هذه العلاقة لن تمحوها الكلمات والوعود البراقة، فالجذور لن تتغير، وإن تغيرت السياسات وفقا للأمر الواقع، والذي يفرض أحيانا طقوسا وتصرفات غير مألوفة للسياقات السابقة.
◄ إذا نجحت الإدارة السورية في تثبيت أركانها جيدا وهي قابضة على توجهاتها الإسلامية أو متمسكة بجزء منها، ربما تصبح القاهرة مضطرة للانفتاح عليها وتدخل تعديلا على فكرة العداء الحاد للإخوان
يصعب حدوث انفتاح من القاهرة على دمشق ما لم تكن هناك مشاركة في السلطة السورية من قبل ألوان سياسية عدة، فاللون الواحد (الإسلامي) الطاغي على الحكومة الحالية يؤدي إلى متاعب لرئيس إدارة العمليات أحمد الشرع، ويثبت انتماءه العقائدي، ويبعد عنه مصر، وربما تنأى عنه الكثير من الدول، عربية وغير عربية.
لمصر خصوصية قاتمة مع التيار الإسلامي، فهي أول دولة وجهت له ضربة موجعة، انهارت على إثرها جماعة الإخوان أمنيا، وانتقلت العدوى إلى دول أخرى في المنطقة، وتؤدي استعادة الجماعة والتيار الإسلامي عموما للياقتهما السياسية من سوريا إلى إحراج للقاهرة، فكيف تقيم علاقة مع نظام تتناقض هويته مع هوية النظام المصري، وقد تضطر بسبب هذه العلاقة (المفترضة) لتغيير حساباتها إزاء الجماعة في الداخل؟
تحتاج هذه المعادلة إلى تفكيك من جانب الإدارة الجديدة في سوريا والنظام المصري، أو تجميد العلاقة ووضعها في منطقة رمادية، لا تحمل ملامح سلام وتطبيع، أو مواجهة وصدام، ولكل خيار تبعات سياسية تنعكس على شكل العلاقة بينهما.
إذا نجحت دمشق في الاقتناع بإدخال تعديلات كبيرة على توجهاتها وسمحت بانخراط قوى وطنية من مشارب سياسية وعرقية ومذهبية متباينة، فإن الطريق أمامها سيكون ممهدا لتطوير العلاقات مع مصر، ففي هذه الحالة تؤكد على وجود تحول نوعي في حساباتها، شريطة أن يكون هذا التحول ملموسا وممتدا وليس على سبيل التقية، والتي تبنتها جماعة الإخوان كثيرا من أجل الوصول إلى غاياتها السياسية، إذ يمكن السماح بمشاركة رمزية من قوى سورية متنوعة بلا فاعلية.
◄ العنصر الإسلامي لا ينم عن هوية عامة لنظام الحكم، فالمسحة الظاهرة له في أنقرة متذبذبة وتتوقف على حجم المكاسب، فقد تحدث انحناءات عند الضرورة
ولا يزال الشوط طويلا لمعرفة التصورات الحقيقية في دمشق، فالسلطة لها تقديرات خاصة عن الثورة، ووضعت بعض الدول المنفتحة وتلك التي أحجمت أو تحفظت عليها مطالب أشبه بشروط للانفتاح ورفع العقوبات والمساعدة في إعادة الإعمار، تفرض على الحكومة السورية التخلي عن حزمة من الحسابات التي انطلقت منها هيئة تحرير الشام نحو دمشق لإسقاط نظام بشار الأسد، في مقدمتها الموقف من التنظيمات المتطرفة والعلاقة معها، وبالطبع تغيير توجهات الهيئة نفسها.
يشير تحليل الخطاب العام إلى عدم حدوث تغيير في دمشق يشجع القاهرة على التجاوب سريعا مع الإشارات التي قدمتها الأولى، ما يعني صعوبة تفكيك عناصر القلق، فالحفاظ على شرعية النظام المصري القائمة على محاربة قوى التطرف والعنف والإرهاب وتقويض الإخوان تتطلب تخلي النظام السوري عن شرعيته القائمة على إرث هيئة تحرير الشام أو جبهة النصرة، أي التحالف مع القوى الإسلامية.
ينطوي تدافع بعض القوى الإقليمية والدولية نحو دمشق على رغبة في إمكانية حدوث تغيير من الداخل، استنادا على سلاحي العقوبات والإغراءات، أو العصا والجزرة كما يطلق عليها في بعض الأدبيات، وهناك أمل يراود البعض بأن الأمر الواقع يفرض طقوسه على الإدارة الجديدة، ويجبر رئيسها أحمد الشرع على التنصل من جزء معتبر من ميراثه كي يستطيع الاستمرار في السلطة وتجنب مواجهة انتكاسة، لكن المسألة قد تستغرق وقتا، فكما أن بناء التحالفات يحتاج إلى مقدمات وتربيطات متينة، ففضها قد يستغرق وقتا أطول، ويتم تدريجيا خوفا من الانهيار.
في الوقت الذي تعمل فيه دول على أساس خيار التغيير من الداخل، تنتظر مصر لتجد شيئا ملموسا يشجعها على الانفتاح، ووقتها سيتم ترتيب الأوضاع في سوريا لحساب تركيا وقطر بشكل خاص، ودول أخرى راهنت على نجاحها في حرف الشرع عن إرثه الثقيل، وفي هذه الحالة لن تتمكن القاهرة من نسج علاقات قوية مع دمشق، لأن التجهيزات الجارية الآن سوف يقطف ثمارها من شاركوا فيها.
◄ الحفاظ على شرعية النظام المصري القائمة على محاربة قوى التطرف والعنف والإرهاب وتقويض الإخوان تتطلب تخلي النظام السوري عن شرعيته القائمة على إرث هيئة تحرير الشام أو جبهة النصرة
تميل مصر إلى البقاء في المنطقة الرمادية إلى حين اكتشاف معالم الطريق، والمسار الذي سوف تسير فيه سوريا، فالعقدة الرئيسية المتمثلة في الانتماءات العقائدية للشرع تظل عقبة أمام أي تطور إيجابي، لأن المعادلة صعبة، والمضي في سرب التغيير من الداخل أو الابتعاد إلى حين حدوث تغيير ملموس كلاهما مر بالنسبة إلى مصر، فالتسليم بالتغيير يعني موافقة القاهرة على تطوير العلاقات وقد لا يجري التغيير المنتظر.
يصعب وضع الإدارة السورية في الكفة نفسها مع تركيا وقطر، حيث تحسنت علاقتهما مع مصر لأن المنطلقات الإسلامية التي تعتمد عليها الأولى تنطوي على قدر عال من البراغماتية ومسبوغة بدرجة واضحة من العلمانية، وتعتمد الثانية (قطر) على توظيف هذه المنطلقات لخدمة سياستها الخارجية.
وفي الحالتين العنصر الإسلامي لا ينم عن هوية عامة لنظام الحكم، فالمسحة الظاهرة له في أنقرة متذبذبة وتتوقف على حجم المكاسب، فقد تحدث انحناءات عند الضرورة.
بينما يضع الابتعاد مصر في مربع المتذمرين من سوريا، وهذه من المرات التاريخية النادرة التي يجري فيها ذلك، ففي خضم الخلافات مع نظام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد تمكنت القاهرة من إيجاد نقاط مشتركة معه، وبعد اندلاع الثورة ضد بشار الأسد لم تنقطع خطوط الاتصال الأمني والسياسي معه.
ولذلك فالخصوصية التي تربط البلدين تبحث دائما عن منطقة دافئة، لأن العقدة الرئيسية (شرعية النظام المصري ومحاربة الإخوان) يمكن أن تستمر فترة طويلة على حالها.
وإذا نجحت الإدارة السورية في تثبيت أركانها جيدا وهي قابضة على توجهاتها الإسلامية أو متمسكة بجزء منها، ربما تصبح القاهرة مضطرة للانفتاح عليها وتدخل تعديلا على فكرة العداء الحاد للإخوان أو الحفاظ عليه وانتظار تغيير آخر في سوريا.
محمد أبوالفضل – كاتب مصري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة