منذ بداية الصراع السوري (2011) كان من غير الممكن فصل الصراع السياسي عن الصراع الدستوري، بمعنى العقد الاجتماعي الذي يحدد شكل نظام الحكم والعلاقة بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وعلاقة الدولة بالشعب، وعلاقة المواطنين ببعضهم البعض.
الحديث هنا يتعلق بواقع تغلّبت، أو تغوّلت، فيه السلطة على الدولة والمواطنين، وفي وضع افتقد للدولة بمعنى الكلمة، بما هي دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، بحسب الترسيمات التي طرحها آباء الفكر الجمهوري، كنقيض لأنظمة الحكم المطلق والتفويض الإلهي.
على أية حال فإن مجمل المقترحات الدولية لحل الصراع السوري، منذ بدايته، حاولت ملاحظة تلك الإشكالية، أي الربط بين السياسي والدستوري، وهو ما برز في بيان جنيف1 (2012)، وفي بيان فيينا (أواخر 2015)، وفي قرار مجلس الأمن الدولي 2254، وفي “سلال ديمستورا” الأربع (2017). الأمر الذي وصل إلى تشكيل اللجنة الدستورية (2019)، التي عقدت اجتماعا واحدا صوريا في جنيف. ثم ما لبثت أن نعاها المبعوث الدولي إلى سوريا غير بدرسون، في إحاطته أمام مجلس الأمن الدولي (21 – 12 – 2019)، بسبب الموقف السلبي للنظام، الأمر الذي جعله لا يتحدث عن عقد اجتماع جديد للجنة، دون إيجاد موقف دولي داعم أو ضاغط على النظام.
تحيلنا هذه المقدمة إلى تأزّم الدولة السورية منذ قيامها، وتاليا إلى تأزم المسألة الدستورية في ذلك البلد، رغم أنها عرفت الدستور في فترة مبكرة، أي منذ قيامها ككيان دولتي مستقل، إثر الخروج من الإمبراطورية العثمانية.
هكذا تم صوغ الدستور السوري الأول سنة 1920 في العهد الفيصلي (1918 ـ 1920)، من قبل 20 من الشخصيات من مختلف المناطق، برئاسة هاشم الأتاسي، ونصت بنوده على مملكة سورية عربية وحكومة ملكية نيابية، وعلى حرية المعتقدات والديانات، وحرية الطباعة، وعدم جواز محاكمة أحد إلا في حالات يعيّنها القانون، لم تُكتب له الحياة، بسبب خضوع سوريا للانتداب الفرنسي.
أما الدستور الثاني الذي عرفته سوريا فتمت صياغته عام 1928 إبان الانتداب، من خلال جمعية تأسيسية انبثقت عنها لجنة ضمت 27 شخصية برئاسة إبراهيم هنانو، حيث اضطلع فوزي الغزي بالدور الأكبر في صياغته.
ونص ذلك الدستور على اعتبار سوريا جمهورية نيابية، وعلى حماية الحقوق والحريات. وأن الأمة مصدر كل سلطة، وأن السلطة التشريعية منوطة بمجلس النواب. إلا أن سلطات الانتداب حاولت تعطيله، أو تعطيل بعض بنوده التي تنص على استقلال سوريا وسيادتها، ناهيك عن عدم التعامل مع سوريا كوحدة واحدة.
لكن أشهر دستور سوري، وهو الثالث، تمت صياغته في العام 1950 بعد الاستقلال، وقبل الحقبة البعثية، من قبل جمعية تأسيسية منتخبة، برئاسة ناظم القدسي (في ظل حكومة خالد العظم)، من 166 مادة.
أما في الحقبة البعثية، أو الأسدية، فقد تم إصدار دستورين، واحد في عهد الأسد الأب (1973)، وهو الرابع، وواحد في عهد الأسد الابن (2012)، وهو الخامس في سلسلة الدساتير السورية. بيد أن أول دستور في ذلك العهد لم يوضع من قبل جمعية تأسيسية، أو من قبل لجنة مختصة، وإنما وضع من قبل نظام الحكم وقدم لمجلس الشعب ليصادق عليه. ونص هذا الدستور في مادته الثامنة الشهيرة على أن “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية”. كما نص في مادته الحادية عشرة على أن “القوات المسلحة ومنظمات الدفاع الأخرى مسؤولة عن سلامة أرض الوطن وحماية أهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية”. أي أنه أدخل الجيش في السياسة، وفي مواجهة الشعب، وفق نص دستوري.
ونص هذا الدستور في مادته (101) على أن رئيس الجمهورية يعلن “حالة الطوارئ ويلغيها على الوجه المبين في القانون”. وأنه بحسب المادة (103) هو “القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، ويصدر جميع القرارات والأوامر اللازمة لممارسة هذه السلطة، وله حق التفويض ببعض هذه السلطات”. وجاء في المادة (107) أن “لرئيس الجمهورية أن يحل مجلس الشعب بقرار معلل يصدر عنه، وتجري الانتخابات خلال تسعين يوما من تاريخ الحل”.
بعد الثورة السورية، وبضغط منها ومن المجتمع الدولي، قام نظام الأسد بتشكيل لجنة من 29 شخصا، لإعادة كتابة الدستور، برئاسة المحامي مظهر العنبري، المساهم الرئيس في وضع دستور 1973، وهو يعرف بدستور 2012.
من أهم ما جاء في هذا الدستور إلغاء المادة الثامنة من الدستور السابق، والنص في الدستور الجديد على التعددية السياسية وعلى ممارسة السلطة ديمقراطيا عبر الاقتراع (ديمقراطية انتخابات)، كما نص على تشكيل الأحزاب السياسية، وأعيد العمل بسن الرئيس بحيث يكون الحد الأدنى 40 عاما، وهو ما جرى تغييره على قياس بشار الأسد، الذي كان عمره 34 عاما عندما توفي والده، وتم حينها تغيير الدستور بطريقة مهينة ببضع دقائق، وسط تصفيق أعضاء مجلس الشعب.
عرفت سوريا خمسة دساتير في تاريخها، إلا أنها ظلت بمثابة حبر على ورق، بحكم طغيان السياسي ـ السلطوي على الدولة والمواطنين، علما أنه منذ خروج سوريا من حقبة الإمبراطورية العثمانية (1918) عرف السوريون 220 حكومة، منها 70 منذ الاستقلال (1946)، و37 في المرحلة البعثية ـ الأسدية (1963 ـ 2019). أيضا، تناوب على رئاسة سوريا منذ الاستقلال (1946) 16 رئيسا، عشرة في 13 عاما (1946 ـ 1963)، كنتاج لحال الاضطرابات السياسية والانقلابات الستة (قبل البعث 1963)، وستة بعد حكم البعث، منهم أربعة في سبعة أعوام (1963 ـ 1970)، في حين حكم الأسد وابنه قرابة نصف قرن، بحيث أضحت سوريا بمثابة جملكية، أو جمهورية وراثية والبقية معروفة.
ماجد كيالي – كاتب سياسي – صحيفة العرب
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة