هل يبدو صحيحاً الانطباع السائد في المنطقة بأن النظام السوري تجاوز مرحلة خطر سقوطه أو تغييره وثبّت بشار الأسد حكمه؟ وإذا كان الجواب نعم، فهل بقاء الأسد ولو على أشلاء بلد يخضع لسطوة خمس دول أجنبية متحكمة بقراره ومخترقة لسيادته، هو تسليم إقليمي ودولي بدور إيران في المنطقة، أقله احتفاظها بما حققته من توسع وتمكين حلفائها وميليشياتها في أماكن وجودهم؟
الإجابة النهائية والحاسمة متعذرة، إنما ثمة مؤشرات إقليمية تشي بصحة الانطباعين من دون إغفال أن السياسة ليست أبيض أو أسود، بل معرضة دائماً لدينامية مستمرة ومتقلبة تؤدي إلى تغيير الوقائع وأحياناً رأساً على عقب.
نبدأ مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بنيت إلى موسكو وما رشح عنها بما يذكر بزيارات بنيامين نتنياهو التي بلغت أكثر من 12، وفيها تكرار رتيب لتصريحات مملة وغامضة تدل على استمرار رهان الحكومات الإسرائيلية على دور روسي في سوريا قادر على إبعاد إيران والحد من دورها على حدودها الشمالية، وحتى استطراداً على دور محتمل للأسد في تحقيق هذه الرغبة.
هذه السياسة – المأزق الإسرائيلية المتواصلة مع الحكومة الجديدة، هي نتيجة عدم قدرة تل أبيب على شن حرب واسعة أو حتى خاطفة ضد إيران بلا غطاء أميركي، الأمر غير المتوفر حالياً، يضاف إليها ثانياً هاجس ما ستؤول إليه مفاوضات الاتفاق النووي في فيينا. فرغم ارتفاع منسوب حرارة العلاقات مع واشنطن، لم تصل بعد إلى مستوى يطمئن الحكام الإسرائيليين علماً أن جزءاً كبيراً من المسائل المختلف عليها مع أميركا، مختلف عليها أيضاً داخل الحكومة الإسرائيلية، وأبرزها الموقف من الاتفاق النووي ومقاربة تسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، مما يرخي ظلالاً على مستقبلها.
يبقى اللافت في موقف إسرائيل إثر زيارة بنيت إلى موسكو، وبعد 11 سنة على الثورة السورية وانتهاكات نظام الأسد، هو توافقها مع موسكو على عدم استهداف الغارات الإسرائيلية للنظام أولاً والبنى التحتية ثانياً وأنها لا تزال تراهن على إمكانية أن تلعب موسكو دوراً في إبعاد الإيرانيين عن حدودها الشمالية كما وعدت منذ العام 2018 ولم تف.
لا شك أن هناك تباينات بين موسكو وطهران بدءاً من تنامي التنسيق الروسي مع القوى المؤثرة في الأزمة السورية بعيداً عن إيران، كتل أبيب وأنقرة وواشنطن، مروراً بمحاولات موسكو توسيع مناطق وجودها في الشرق السوري بعد الانسحاب الأميركي منها وصولاً إلى موضوع جر الغاز من الأردن إلى لبنان عبر الأنابيب العربية ما يصب بمصلحة إيران لجهة احتمال استعمالها مستقبلاً هذه الخطوط لتسويق غازها ونفطها إذا رفعت العقوبات عنها. ولا شك أيضاً أن تحالفهما في سوريا هش وأن كل واحد منهما يلعب بورقة الآخر لتحقيق المكاسب. لكن ذلك لا يعني أن روسيا ترغب في ذلك من دون الحصول على مقابل قد لا تستطيع أميركا أو إسرائيل تقديمه أو أنها قادرة عليه، لأن الوجود الإيراني في سوريا بات متجذراً بأبعاده العسكرية والسياسية والاجتماعية والدينية، بما يصعب قلعه.
من الصعب من دون شك على متابع السياسة الإسرائيلية أن يصدق أن القادة والمسؤولين الإسرائيليين مقتنعون بما يعلنونه بشأن قدرة موسكو على لجم التمدد الإيراني في سوريا. ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن خيارات إسرائيل تجاه هذا الموضوع باتت محدودة للأسباب التي ذكرناها أعلاه، إضافة إلى خشيتها من مناخ مستجد في المنطقة يبشر بتقارب بين العراق والأردن ومصر، وهي مرتبطة مع الأردن ومصر باتفاقات سلام، ومحاولات ضم لبنان وسوريا إليهم.
هذا القلق الإسرائيلي لعله وراء ما بات يحكى في أكثر من وسيلة إعلامية وفي تقارير صادرة عن رغبة إسرائيلية في إنشاء منتدى يشمل يشتمل على علاقات عسكرية وأمنية، إضافة إلى الأدوار الاقتصادية مع عزم توسيعه ليضم دولاً عربية.
إلى الموقف الإسرائيلي، تبرز مواقف عربية باتجاه محاولة إعادة النظام السوري إلى الحضن العربي وإبعاده عن سطوة إيران عبر إعادة تعويمه وتطبيع علاقاته عربياً وغربياً رغم كل الموبقات التي ارتكبها على مدى عقود، لا سيما تجاه الدول نفسها التي تسعى إلى التطبيع معه وكأنها تعفو عن كل الفظاعات التي ارتكبت بحقها كما بحق الشعب السوري. وثانيها هو حث الدول الأجنبية والعربية على المساهمة في إعادة الإعمار بسوريا، وفاتحتها كان التفاهم على جر الكهرباء من الأردن إلى لبنان واستعمال أنابيب الغاز في سوريا لجر الغاز المصري إليه من دون أن تتعرض هذه الدول إلى عقوبات قيصر، ما يؤشر إلى ضوء أخضر أميركي بخاصة وغربي بعامة لمحاولات احتواء النظام، ومن المتوقع أن تعزز نتائج القمة العربية المرتقبة في الجزائر هذا التوجه.
فهل صحيح أن نظام بشار الأسد راغب حقاً وقادر فعلاً على الانفصال عن إيران ولملمة انفلاشها في بلاده؟ لا يمكن للإجابة عن هذا السؤال إغفال أن العلاقة الإيرانية السورية تعود إلى بدايات الثورة الإيرانية في العام 1979 وقد بناها حافظ الأسد بتروٍّ وأدخل إيران إلى المنطقة ليستكملها الأسد الابن بتهور. هذه العلاقة متجذرة وتتجاوز الوجود الإيراني العسكري في سوريا المبني أساساً على مستشارين إيرانيين أكثر منه على قوات عسكرية إيرانية وعلى التغلغل داخل المخابرات والإدارات السورية، يضاف إلى ذلك حجم وأدوار الميليشيات التابعة لإيران والتي باتت في صلب الفرق العسكرية السورية، من دون أن ننسى الدور الكبير والحاسم لـ«حزب الله» في السابق وحتى الآن في حماية النظام السوري.
وفي الوقت الذي تسعى فيه بعض الدول العربية إلى التطبيع مع نظام الأسد وتتحاشى إسرائيل ضرب مواقعه وتتعامل روسيا بخفر شديد مع الوجود الإيراني في البلاد، تتعثر المفاوضات النووية في فيينا بين طهران وواشنطن بسبب عدم رغبة إيران في العودة إلى الاتفاق النووي من دون ضمان التزام الولايات المتحدة بعدم التراجع عنه لضمان أن يكون رفع العقوبات دائماً وتتمكن من بناء اقتصاد ثابت جاذب للاستثمارات، ورفض التزام الإدارة الأميركية الحالية وإلزام أي إدارة مستقبلية بذلك في حال أخلّت إيران بالاتفاق أو حصلت خلافات معينة.
جراء كل ما سبق هل من الحكمة والمصلحة إعادة تعويم نظام الأسد بسبب وهم إبعاده عن إيران؟ نقول وهم، لأن من أدخل إيران إلى المنطقة سابقاً وحفظت له لاحقاً حكمه يكون تعويمه بمثابة تمكين إيران والاعتراف بدورها بل تكريسه في سوريا والإقليم.
إن تعثر مفاوضات فيينا ودخولها في دهاليز الدبلوماسية التفاوضية المرشحة للاستمرار فترة طويلة بلا حسم لتستمر معها العداوة الأميركية الإيرانية، وعدم ارتياح روسيا من الأداء الإيراني في الداخل السوري، مضافاً إليهما استمرار التباينات والخلافات الإيرانية العربية لا سيما مع دول الخليج واستمرار ابتزاز طهران لها في أكثر من موضوع، كل ذلك قد يشكل فرصة إذا أُحسن الإفادة منها عربياً وأميركياً لمحاصرة إيران وتدجينها، ويعيد الحد الأدنى من التوازن المفقود في المنطقة ويعكر صفو التمدد الإيراني شبه المفتوح في المرحلة الحاضرة.
سام منسى – إعلامي لبناني – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة