رأي – الخروج حياً من “صيدنايا”
المعتقلون السوريون هم قضية فوق تفاوضية وهم الشهداء الأحياء الذين علينا جميعا واجب التدخل العاجل لإعادتهم إلى الحياة التي منعها عنهم نظام خَرِب آيل إلى السقوط وقبل فوات الأوان.
إذا كانت جائحة كوفيد – 19 لم توفّر من شرها بشرا على الكرة الأرضية، بمن فيهم سكان القصور، وبيوت الحكم، وأهل القمة ممن يستطيعون أن يطبّقوا بيسر شروط الوقاية الأساسية، وفي مقدمتها التباعد الاجتماعي، والاهتمام بنظافة وتعقيم اليدين باستمرار، ويتمتعون بترف البقاء في المنزل دون الحاجة إلى التواجد الفيزيائي في مواقع عملهم، فكيف سيكون الحال في المعتقلات السورية حيث نزلاء الأقبية المكتظة منذ سنوات، من رجال ونساء، مكبّلون إلى الظلام وعته إرادة السجّان وجحيمه، حيث التباعد الاجتماعي، ولو في أدنى درجاته، ليس خيارا في المعتقلات ومراكز الاحتجاز، بظروفها الخارجة عن أبسط الأعراف الإنسانية؟
ومن يثق بالنشرة الرسمية التي يصدرها النظام عن عدد الإصابات بفايروس كورونا في سوريا، إذا لم يكن السوري يصدّق يوما أحوال الطقس الذي يعلن عنها التلفزيون الرسمي في نشرته الجوية، فكيف سيصدّق إحصاءات الإصابات بالجائحة في حالة من فلتان السيطرة المركزية، ووقوع مساحات كبيرة من سوريا خارج سيطرة النظام وأجهزة استخباراته؟
الأرقام الرسمية التي قدّمها النظام لإصابات فايروس كورونا هي أقل بكثير من الأرقام المعلنة في الدول المجاورة، بل تقترب في التعتيم وكتم المعلومات من السياسة التي تنتهجها الدولة الحليفة إيران، والتي تعتبر أكبر بؤرة في الشرق الأوسط لانتشار الجائحة، بينما لم يتوقف طيرانها المدني الذي يحمل إلى مطار دمشق يوميا السلاح وحجّاج المقامات المقدسة والمقاتلين وأرامل قتلى الميليشيات، وذلك في إهمال تام وتجاهل لأساليب الوقاية التي اعتمدها العالم بأسره، وفي مقدمتها إقفال الحدود مع الدول التي تنعدم فيها السيطرة على الجائحة.
قد لا يكون من أصيب بكوفيد – 19 أقل حظا ممن قضى شهيدا تحت التعذيب في أقبية جهنم، وقد شهد العالم صور ذاك الموت المرعب في 55 ألف صورة شكّلت القاعدة القانونية لبناء قانون قيصر الأميركي للعقوبات على نظام الحكم في دمشق.
يرسم أحد المعتقلين، وهو شهيد حي خرج من السجن بعد سنوات قضاها هناك دون توجيه اتهام له سوى المشاركة في مظاهرات العام 2011، مشهدا لحال رفاقه البائس في القبو المعدّ لتجميع المعتقلين تحت الأرض، وحشدهم في سجن صيدنايا سيء الذكر، وذلك في شهادة قدّمها أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي مؤخرا، يقول “حين دفعه السجّان إلى تلك الغرفة المظلمة كان السجن مكتظا بالرجال الذين يقبعون خلف جدران عفنة كتفا إلى كتف، وكان يتناوب عليهم الجلاد بالصدمات الكهربائية والضرب المبرح ويجبرهم على التحديق برفاقهم المعتقلين أثناء وقوعهم فريسة للاغتصاب والابتزاز الجنسي”.
ويضيف إلى هذا المشهد المرعب رعبا أعظم “كنا في جوع مستمر نظرا لنوع وحجم الوجبات التي كانت تعطى لنا، وانتشر بيننا المرض حيث كنا معبئين كما الأسماك الميتة في علبة سردين، ولم أخرج من المعتقل إلا بعد أن دفعت أمي رشى طائلة، وصلت إلى الآلاف من الدولارات للإفراج عني في العام 2015”.
المعتقلون السوريون هم قضية فوق تفاوضية
هذا هو المشهد كما وصفه شاب حالفه الحظ بالخروج حيا من المعتقلات ناجيا بأعجوبة من عمليات الإعدام الجماعي التي كان ينفذها النظام من وقت لآخر خارج القانون.
هل سيتمكّن فايروس كورونا من حياة الآلاف الذين مازالوا رهن الاعتقال التعسفي، ويقضي بجريمة لا دماء فيها على هؤلاء الرجال والنساء دون تدخّل الجلاد هذه المرة؟ وأين تقف الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان من هذه المسألة في واحد من أسوأ وأشرس المعتقلات في العالم، حيث يقدّر عدد المعتقلين بما يقارب 130 ألفا معظمهم يعاني من الهزال والضعف وانهيار جهاز المناعة في أجسادهم النحيلة بسبب ظروف الاعتقال والترهيب وغياب الرعاية الصحية، ما يجعلهم فريسة سهلة للجائحة؟
لم تفلح حتى تاريخ كتابة هذه السطور الضغوط الأممية، السياسية والعسكرية، التي مارسها العالم الحر على دمشق من أجل الإفراج عن المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي كافة، نساء ورجالا، وإنهاء ملف الاعتقال التعسفي في سوريا، وتبييض السجون وتحويلها إلى متاحف للهولوكوست السوري هي الشاهد على عصر جهنمي بائد.
وعدتْ أجهزة النظام السوري الأمنية أكثر من مرة بالإفراج عن المعتقلين، لكنها كانت تفرج عن بضع من السجناء الجنائيين من أصحاب الجريمة والجنح، أو من المتشددين الذين هم مشروع إرهابيين كما فعلت في العام 2002 حين أفرجت عن سجناء محكومين بالإرهاب لتحارب بهم القوات الأميركية في العراق، وتمنع قيام دولة مستقرة ديمقراطية في البلد الجار الذي أنهى استبداد حكم البعث العراقي – التوأم اللدود لنظيره في سوريا.
من نافلة القول إن الأمور ما بعد قيصر تتّجه في منحى آخر، لم يكن في حسابات الأسد وأركان حكمه على الإطلاق. فلم يعد ممكنا المساومة على الإفراج عن المعتقلين واعتبارهم ورقة سياسية قابلة للتفاوض. وجاءت جائحة كوفيد – 19 (على بشاعتها) لتعزّز الموقف الدولي من ضرورة الإطلاق الفوري لسراح سجناء الرأي وتبييض المعتقلات كافة. وليس خافيا أن ما يتعرض له النظام من ضغوط اقتصادية، طالت الجار اللبناني عشية البدء بتطبيق قانون قيصر، إنما هو أول الغيث من إعصار قادم سيطيح بجدران الأسد العالية، وقد أمست بشائر التغيير المستحق خلف الأبواب.
المعتقلون السوريون هم قضية فوق تفاوضية، وهم الشهداء الأحياء الذين علينا جميعا واجب التدخّل العاجل لإعادتهم إلى الحياة، التي منعها عنهم نظام خَرِب آيل إلى السقوط وقبل فوات الأوان. فإذا كانت الإعدامات خارج القانون التي يمارسها الجلادون في دمشق قادرة على إراقة دمائهم ولا حصانة لهم ولا معين، فإن الأسد لن يتوانى عن ترك هؤلاء الأبرياء لمصيرهم في مواجهة عدوى المرض القاتل دون أن يرفّ له جفن، أو يحسب عليه تصفيتهم مكبّلين.
فصل المقال يقع في مسؤولية الدول الراعية لعملية الانتقال السياسي في سوريا، الإقليمية الشقيقة والأخرى الحليفة والصديقة، وهي على المحكّ الأصعب اليوم. وكما العالم بأسره يواجه خطر جائحة غير مسبوقة، ويبتكر الوسائل ليحمي البشرية التي تعيش في النور والشمس، عليه التزام عاجل وإسعافي لإنقاذ عشرات الآلاف من الأرواح القابعة تحت الأرض، في معتقلات جحيمية تختصر كافة أسباب الموت قهرا، أو ألما، أو عدوى قاضية.
مرح البقاعي – كاتبة سورية أميركية – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة