التواصل مع الجهات الأربع يقود إلى زيادة التعقيدات ويقلل فرص تفكيكها ويحمّل الدول التي لجأت إلى التوفيق بينها مسؤولية سياسية وأخلاقية.
قد يكون العنوان أعلاه يجمع بين أربع جبهات متناقضة، لكن بقليل من الإمعان يمكن اكتشاف أن هناك طرفا من خارجها نجح في الجمع بينها، وقلص مساحة التنافر الظاهرة من الوهلة الأولى، وأصبحت هذه الأطراف حاضرة في حسابات بعض القوى عند تعاملها مع الدول الحافلة بصراعات ونزاعات في المنطقة.
نظرة واحدة على إحداها، في سوريا وليبيا واليمن والعراق والصومال، أو غيرها، تبين وجود علاقة بين المكونات المنخرطة في التوترات التي تمر بها هذه الدول، وبين قوى خارجية عدة، فتعدد اللاعبين واختلاف مشاربهم وتباين أهدافهم، فضلا عن السيولة التي تتسم بها التوترات، فرض العمل وفقا لسياسة تعتمد على خطوط متوازية.
جاءت هذه السياسة من رحم النتائج التي تفرزها كل جبهة، فلم تعد القسمة على اثنين، أو قاصرة على الحكومة والمعارضة، مهما كانت قوة كل طرف، أو تنوعت آلته المستخدمة في الحسم بين المرونة والخشونة، وبين الوسائل السياسية والمسلحة، وبين الأجسام الداخلية والخارجية، حيث طرأت مستجدات غيرت القاعدة التقليدية.
أسهمت التطورات التي جرت خلال السنوات العشر الماضية في التغيير، ففي ظل صعود قوى وهبوط أخرى، بدأت محددات الاشتباك تشهد تحولات في دور العامل الخارجي في تحريك القوى المحلية، بما زاد من طغيان الأول على الثانية.
مضى وقت، كانت فيه قوى خارجية تفتح قنوات اتصالاتها في دول عديدة مع الحكومة والمعارضة السياسية في آن واحد، ثم امتدت إلى التنظيمات التي تتبع أسلوبا مسلحا في معارضتها، بهدف ضمان الحفاظ على المصالح لاحقا.
إذا تمكنت الحكومة من القبض على زمام الأمور نجت هذه الدولة أو تلك من مأزق انحيازها إلى المعارضة من خلال عدم التخلي عن الدفء مع الحكومة، وإذا حدث العكس، ونجحت الأخيرة في الصعود إلى السلطة لم تتأثر المصالح العامة بذريعة دعم الحكومة في مواجهتها، وهي صيغة ازدادت جاذبيتها في بعض الدول.
أجادت دول غربية استخدام سياسة الأداتين لفترة طويلة، بحجة أن الديمقراطية التي تتبناها علنا تفرض الحوار مع جميع القوى، واستقبلت عواصمها، وسفاراتها في دول عربية وأفريقية، قيادات من المعارضة لهذا السبب، وتركت الحوار وإدارة التعاون مع المعارضة المسلحة للأجهزة الاستخباراتية لتحديد السبل الممكنة للتوجيه والتنسيق.
نغصت هذه السياسة أجواء العلاقات الرسمية بين الدول التي تقوم بذلك، والدول المستهدفة، وأحيانا كانت الثانية تغض الطرف عما يجري من قبل الأولى، طالما أنها معلنة، والحفاظ على حد معقول من الروابط، فالدول التي تبنت هذه المسألة تملك أوراقا تمكنها من ممارسة ضغوط، بينها تحريض المعارضين على إزعاج حكوماتهم.
مع اتساع رقعة الصراعات دخلت الميليشيات كعنصر مهم فيها، ولم يعمل أفرادها بشكل عشوائي كما كانوا وقت النشأة المبكرة، وامتلكوا المال والسلاح والنفوذ ودفة بعض الأمور، وتحول قادتها إلى أداة في يد حكومات وجهات معارضة لها، ودخلت على الخط قوى خارجية أخذت تراهن على دورهم لحماية بعثاتها ومصالحها.
شهدت بعض الدول الأفريقية حروبا عدة بالوكالة أخذت شكلا سريا، طرأت عليها تطورات كثيرة، والآن يمكن بسهولة تحديد الميليشيات العاملة لحساب بعض الدول، والتعرف على الرسم البياني لصعودها وهبوطها، والأسباب التي أدت إلى ذلك، فبعد شيوع الظاهرة ورواجها في صراعات متعددة تراجعت التحركات الخفية.
تطور الموقف إلى تقنين أوضاع المرتزقة كقوة يتزايد دورها في النزاعات، ولها وكلاء، دول مؤثرة، تنقلهم من نزاع إلى آخر، وأصبحت تركيا عنوانا لهم، ومعروفة بضلوعها في استخدامهم، وتحركهم من دولة إلى أخرى بالطريقة التي تراها تخدم أهدافها، من هنا اجتمعت الحكومة والمعارضة والميليشيات والمرتزقة في بوتقة واحدة لإعادة صياغة الواقع بما يلبي طموحات من لجأوا إليهم.
يقود التواصل مع الجهات الأربع إلى زيادة معدل التعقيدات في الأزمات، ويقلل من فرص تفكيكها، لأن ذلك يحمّل الدول التي لجأت إلى محاولة التوفيق بينها مسؤولية سياسية وجنائية وأخلاقية، لذلك تعمل على تعطيل الحل كلما لاحت فرصة للوصول إليه، أو تلجأ إلى صياغة حلول مشوهة تعيد إنتاج الأزمة ومنع تبريدها.
لعل ما يجري في ليبيا يعد صورة واضحة لهذه المعادلة القلقة، وما يعتريها من تشابكات، فالحل السياسي المرجو يمكن أن يرفع الغطاء عما فعلته تركيا، وبعض القوى المحلية والإقليمية والدولية من تدمير وانتهاكات، ويكشف كمّا هائلا من التصرفات الغامضة التي مورست على الأراضي الليبية، تفسر في مجملها الجمع بين رباعي، الحكومة والمعارضة والميليشيات والمرتزقة.
الخطورة أن بعض الدول، الكبيرة والصغيرة، بدأت تستثمر في هذا الأمر وتضخ أموالا وتوفر دعما لأجل تعميم ظاهرة سلبية وصلت إلى مستوى المناوشة مع قوى متنافسة من داخل الفصيلة الواحدة، وبسبب وجود أجنحة متصارعة فيها انتقل الصراع مع الآخر إلى الجهة ذاتها، فهناك حكومات ومعارضة وميليشيات ومرتزقة تبدو خلافاتها الداخلية أشد وطأة من الخارجية.
يؤدي تقسيم المقسّم إلى زيادة التفسخ والتشرذم، ويثبت أن الرهان على هذا المنهج لا يحقق مصالح من قدموا الدعم والتأييد والملاذ والمأوى وهيأوا الظروف التي أفضت إلى انتعاشه، بعد تولد شعور بالتضخم أو التقزم لدى من كانوا محل الرعاية، ويستمر الدوران في حلقة قاتلة، قد تحمل ارتدادات على من وفروا الرعاية بأنواعها.
تلاقت مصالح من برعوا في هذا المضمار عند تفتيت الجيوش الوطنية، وأسهموا في إفساح المجال لصعود الميليشيات والمرتزقة، وهو ما يقوّض المسافة السياسية الإيجابية بين الحكومة والمعارضة، ويهدم الفكرة البناءة الخاصة باقتصار الحوار عليهما لأهداف مشتركة، فتوسيع اللاعبين يسمح بتكسير عظام الدول الوطنية.
جاء هذا التطور على هوى قوى متشددة ودول داعمة لها، كوسيلة حادة لتوجيه مسار التطورات بما يلبي التطلعات، وتعرضت الجبهات الأربع السابقة لهندسة جديدة تحافظ على مواصلة الاستفادة منها، وفقا لتصورات تعلي قيمة كل جبهة حسب الحاجة إليها.
يمكن أن يصل الأمر إلى مستوى التخلي عن واحدة أو أكثر في سبيل تحقيق غايات رئيسية، واللجوء إلى مساومات للحصول على مقابل سخي كلما اضطر البعض إلى إسقاط ورقة أو جزء منها، ضمن سياق لعبة معقدة يريد القائمون عليها جني مكاسب منها، ما يجعلهم يمعنون في الاستفادة من الجبهات الأربع، الحكومة والمعارضة السياسية والميليشيات والمرتزقة، كمدخل لزيادة النفوذ.
محمد أبوالفضل – كاتب مصري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة