اليوم إذ ينقلب الحشد في جزء من ميليشياته على الدولة بطريقة معلنة من خلال استعراضات بلهاء إنما يخرق تعهدا غير مكتوب كان عليه الالتزام به فهو موجود لأن نظام المحاصصة الطائفية قائم.
استعراضات بلهاء
حين تأسس الحشد الشعبي كان تنظيم داعش قد استولى على محافظة نينوى شمال العراق ومن ثم ألحق بها محافظتي صلاح الدين والأنبار. غير أن الدافع من تأسيسه لم يكن وطنيا بمعنى أنه لم يكن خطوة من أجل البدء بتحرير الأراضي المحتلة.
كانت فتوى تأسيسه التي أصدرها المرجع الشيعي علي السيستاني صريحة في تأكيدها على الدوافع الدينية التي تنطوي عليها فكرة قيام كيان عسكري غير رسمي للدفاع عن الأضرحة المقدسة من قبل الشيعة.
وبسبب ذلك التكليف الديني الذي يحمل بين طياته الكثير من المعاني الطائفية اكتسب الحشد صفة “المقدس” فصار لا يُذكر إلا وتلحق باسمه تلك الصفة لا بسبب ما أنجزه أفراده وما قاموا به بل انطلاقا من الوظيفة التي تم اختراعها أو تلفيقها من أجل أن يكتسب شرعية تؤهله للانتقال من مرحلة الميليشيات التي يمكن أن يصطدم بعضها بالبعض الآخر في أي لحظة إلى مرحلة الكيان الموحد الذي تنفق عليه الدولة وتموله بالمال والسلاح من غير أن يخضع لها إلا صوريا.
لقد تخلص الحرس الثوري الإيراني من مهمة ثقيلة ومكلفة تتمثل في الإنفاق على الميليشيات العراقية التابعة له. تحرر منها وبقيت تتبع أوامره من غير أن تبدي الدولة العراقية أي اعتراض يُذكر ولم تُظهر استياءها من أن يكون جزء من جهدها العسكري تابعا لدولة أجنبية.
تأسس الحشد وهو عبارة عن تجمع لميليشيات شيعية كانت موجودة أصلا باعتباره رد الفعل الشيعي على ظهور تنظيم داعش الذي تم اعتباره ممثلا للسنة وهو فهم خاطئ أو استثمار لفكرة شعبية غير صحيحة. عمليا فإن داعش وإن كان يعلن عن حربه على الشيعة انطلاقا من فكرة انحرافهم عن الإسلام فإنه لم يلحق أي ضرر بهم بل اقتصرت أضراره المهلكة على سكان المناطق التي احتلها وغالبيتهم ليسوا شيعة.
كان داعش مناسبة وليس عدوا. الدليل على ذلك أن تحرير الموصل قد تم إرجاؤه إلى ما بعد ثلاث سنوات من احتلالها. وفي ذلك كان قرار داعش منسجما مع القرار العسكري الأميركي بتأجيل القصف الجوي وهو قرار أريد منه إلحاق أكبر ضرر ممكن بأهالي الموصل والسماح للتنظيم الإرهابي بممارسة كل أشكال العنف التي صارت بمثابة لازمة صورية للتعريف بالتطرف الإسلامي وكانت جريمة تدمير الآثار العراقية جزءا من مخطط محو الذاكرة العراقية. ذلك ما يمكن أن يشكل نقطة لقاء مشترك بين الولايات المتحدة وإيران. العراق مجردا من وثائق تاريخه المادية.
بناء على ذلك يمكن توقع قيام فصائل الحشد بتسهيل عمليات هروب مقاتلي التنظيم الأصلي قبل بدء معارك التحرير عام 2017 وذلك تعبيرا عن الشكر. فلولا داعش ما كان هناك حشد شعبي.
كما أن داعش قدم للطائفيين من الشيعة وبالأخص ممَن اعتبروا الحشد خيارا تاريخيا لا يمكن التخلي عنه خدمة عظيمة حين جر الآلاف من شباب المدن العراقية التي نُكبت بسياسات العزل والإقصاء والاهانة وقوانين الإرهاب التي سُنت من أجل الاعتقال والإعدام إلى إعلان عصيانهم وتمردهم وهو ما استدعى تصفيتهم باعتبارهم بقايا داعش التي تهدد الأمن والاستقرار في العراق.
لذلك يمكن النظر إلى ظهور داعش بين حين وآخر في أماكن متفرقة من العراق باعتباره ضرورة حشدية تبث الذعر في قلوب العراقيين ممَن صدقوا الكذبة التي هي عنوان التناغم بين الحشد وداعش.
كان داعش ضروريا بالنسبة إلى الحشد الشعبي الذي تغذي قسوته الإحساس لدى أهالي المدن ذات الغالبية السنية بالحاجة إلى داعش. ولأن الحشد يرغب في أن تكون سلطته فوق القانون أي فوق الحكومة فإنه يحرص على استمرار داعش باعتباره تنظيما خارجا على القانون. وهنا يتساوى الطرفان. نفعل ما تفعلون لكي نكون أقوى. وهذا ما لا يمكن أن يكون حقيقيا من جهة ما يصب في مصلحة الدولة التي يمكن التضحية بها وهي الخاسرة في كل الأحوال.
اليوم إذ ينقلب الحشد في جزء من ميليشياته على الدولة بطريقة معلنة من خلال استعراضات بلهاء إنما يخرق تعهدا غير مكتوب كان عليه الالتزام به. فهو موجود لأن نظام المحاصصة الطائفية قائم. أما حين يسعى إلى إسقاط ذلك النظام فإن ذلك يعني محاولة انتحار غبية تؤكد أن الحشد لم يخرج من إطار مفهوم العصابات التي ترى في وجود الدولة خطرا عليها.
سيختفي داعش حين يتخندق الحشد في جبهة معادية للقانون الذي كان داعش عنوانا للخروج عليه. وهكذا سيفقد الحشد السند الذي يدعم وجوده.
فاروق يوسف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة