دمشق °C

⁦00963 939 114 037⁩

رأي – الحديث عن “دبلوماسية درامية” بين دمشق والرياض

إن كانت الدراما السورية التي قبل بها السعوديون ضيفا مبجّلا يحتل الصدارة على قنواتهم التلفزيونية، طيلة سنوات طويلة، قد جاءت بقرار سياسي من جهتي الإنتاج والاستقبال لدى الطرفين السوري والسعودي، فلا بد ألاّ نستبعد انقطاعها أو عودتها بقرار سياسي أيضا؟
كان القرار السياسي السوري المتعلق بـ ”وجوب انتشار الإنتاج التلفزيوني السوري في كافة أنحاء العالم العربي” قد تم اتخاذه منذ حياة الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي لا يناقش له كلام في بلاده، لما للأمر من أهمية في البروباغندا السياسية، وكذلك الدعاية السياحية والتنمية الاقتصادية.
وكان القرار السياسي السعودي بدوره، صائبا من جهة الانفتاح على هذا الإنتاج الدرامي الواعد، والذي يحقق الفائدة والمتعة، ويعلن مجموعة قنوات “أم بي سي” السعودية واحة للتنوع الدرامي الذي يستقطب المشاهدين على امتداد المنطقة العربية، لا بل تساهم في الإنتاج والتوزيع، والتفرد باكتشاف المواهب الشابة.
المسألة إذن، تتعلق بمعادلة “رابح ـ رابح” وفق منطق الاقتصاد السياسي والسياسة الاقتصادية .. إن صحت هذه المقاربة.
وبالفعل، تحقق ما كان يرجوه الطرفان: تطور القطاع الإنتاجي السوري في الميدان الدرامي وصار يشغّل قسما كبيرا من ذوي الكفاءات وخريجي المعاهد الفنية، وحتى العاملين في المهن التابعة والموازية، كما أخرج سوريا من عزلتها، لانت المواقف وتحقق انفتاح نسبي بفعل بعض الجرأة التي تتطلبها الصناعة الدرامية.
أما عن الجانب السعودي، فقد حصلت الإفادة والاستفادة، وصار الاستغناء عن استيراد الأعمال الدرامية المدبلجة والنمطية المكررة، إنجازا هاما يُحسب للسعودية وقناة “أم بي سي”، على وجه التحديد، مما حدا بالأشقاء المصريين مثلا، إلى التطوير من إنتاجهم مجاراة وتماشيا مع النسق السوري الذي يواصل تألقه.
جاءت الانتفاضة السورية مثل حدث مفصلي يهز دراما كبيرة، ويبدّل في المصالح والمصائر ويغير في الأحداث.
وكان لا بد من ردات فعل وظهور دراماتيكية عالية في التعامل مع هذا الحدث الذي زلزل الواقع السوري بمختلف تركيباته ومنظوماته وفئاته الاجتماعية ونخبه السياسية والثقافية.
المتأثر الأول في مثل هذه الهزات الاجتماعية والسياسية هو القطاعات الهشة والحساسة المتمثلة في الفن والثقافة والإعلام، خصوصا وأن هذه القطاعات مطالبة بالتفاعل مع هذا الحدث الذي هو سياسي بالدرجة الأولى.
ولأن الإنتاج الدرامي السوري هو “مُنجز سياسي” بامتياز، على اعتبار أنه جاء بقرار من حافظ الأسد، واستمر برعاية ابنه بشار الأسد، فقد اختل النظام وانقسم الوسط الفني السوري إلى مؤيد ومعارض.. مثله مثل أيّ منتفع وأيّ متضرر في حرب يتجرأ بعضهم على وصفها بـ ”الأهلية”.
لا يمكن طبعا، أن يدير الإنتاج الدرامي السوري ظهره إلى ما يحدث ويتحدث عمّا لا يحدث ثم إن هناك تصدعا أصلا، قد حصل لدى منتجي الدراما، وانقسمت العائلة الفنية السورية إلى ابن بار وآخر ضال، فمن عساها، يا ترى، تصدّق القنوات التلفزيونية السعودية؟
هذا بالإضافة إلى شبه الإجماع العربي الرسمي، والموقف الموحّد الذي يدين ممارسات السلطات السورية، وإن كان بشكل متفاوت.
وعلى الرغم من هذا المشهد المهشّم، لجأت الشاشات السعودية بعد اندلاع النزاع إلى عرض مسلسلات عربية مشتركة، شاركت فيها مجموعة واسعة من الممثلين السوريين في الداخل وفي الشتات، دون مفاضلة أو حسابات سياسية ضيقة.
أمام هذه الرؤية الضبابية، وخشية من النزول في أتون الخلافات كطرف سياسي، اكتفت قناة “أم بي سي” بمواصلة عرض مسلسلين من إنتاجها بينهما آخر أجزاء “باب الحارة” الذي تجعله بيئته التاريخية بعيدا ـ إلى حد ما ـ عن التأويلات والإسقاطات التي لا يمكن إنكارها على كل الأحوال.
الابتعاد عن المسلسلات التي تتطرق إلى النزاع الدائر في سوريا أمر صعب، لكن القناة الممولة سعوديا حاولت ممارسته، فكان عليها انتظار “تهدئة النفوس” دراميا، اجتماعيا وسياسيا.
وبالفعل حصلت تطورات سياسية ذات بعد إقليمي لعبت فيها الدراما دور السفير المفوض، لكن، من نصّبه؟ سؤال يشبه متاهة الأسبقية بين البيضة والدجاجة.
الأرجح بالتأكيد، أن السياسة هي التي تتولى زمام الأمور، لكنها تتعمّد أن تسبقها للتقارب مجالات أخرى كالرياضة والفن وغير ذلك من القوى الناعمة والمؤثرة في “استئناف تنفيذ” نوايا التقارب وكسر جبال الجليد.
وبالفعل جاء مسلسل “مع وقف التنفيذ” لكسر مقاطعة الشاشات السعودية لإنتاجات سورية تتناول النزاع الدامي في البلاد، ليكون بذلك أول مسلسل يروي قصصاً من الحرب تعرضه قناة “إم بي سي” منذ قطع الرياض علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق.
المسلسل تدور أحداثه حول عودة الأهالي إلى إحدى ضواحي دمشق بعد سنوات من النزوح، وهو من إخراج سيف سبيعي، ابن الفنان رفيق سبيعي الموالي للنظام وشقيق عامر سبيعي المعارض للنظام، والذي توفي كمدا في مصر.. أليس هذا في حد ذاته، تلخيصا للدراما السورية الكبيرة، والموجعة على المستويين الاجتماعي والسياسي؟
أغلب الظن أن التقارب السعودي – السوري يتحرك ببطء وبسؤدد كما تريده سياسة المملكة، ووفق شروط لا يتضرر فيها المواطنون السوريون على اختلاف مواقعهم، بما في ذلك العاملون في الدراما التلفزيونية نفسها.
وكما المؤشرات التي يعتمدها كتاب الدراما في الكشف البطيء عن أحداث وتغيرات ومياه قد تعود إلى مجاريها، ظهرت بوادر عدة تشير إلى انفتاح خليجي تجاه سوريا، أبرزها استئناف العلاقات بالكامل بين دمشق وأبوظبي، حليفة الرياض، لكن المملكة العربية السعودية اختارت التأني مثل أيّ شقيق أكبر في عائلة يختلف أفرادها إنما لا يتقاتلون كما تريد قوى إقليمية معادية.
“مع وقف التنفيذ” مبعوث دمشق إلى السعودية، ويبث على قنوات المملكة لمنع بث الفرقة بين الأشقاء، وللتذكير بأنه لولا الرياض لما تطورت الدراما في دمشق التي ينبغي أن تعود إليها عروبتها دون تشدد أيديولوجي أو تدخل إيراني – تركي.
حكيم مرزوقي – كاتب تونسي – صحيفة العرب
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة