دمشق °C

⁦00963 939 114 037⁩

رأي – الجولاني: من قائد جهادي إلى سياسي معارض ورجل دولة

أحمد الشرع كسب نصف المعركة، النصف الباقي هو الأكثر صعوبة. المتضررون من سقوط النظام السوري داخل البلاد وخارجها يتربصون به وينتظرون فرصة الانقضاض عليه.

رجل الدولة الذي التف حوله السوريون
أكثر ما يحتاجه أبومحمد الجولاني (أحمد الشرع)، قائد الإدارة الانتقالية في الحكومة السورية، هو تقديم كشف حساب ليس لما يحدث في سوريا اليوم، وما قد يحدث فيها غدًا، بل لما حدث في الماضي. وإن كانت كلمة “كشف حساب” تثير بعض الحساسية، لنقل إذًا تقديم مذكرات يتلقفها العالم تكون شاهدًا على حقبة تاريخية هامة ومرحلة حاسمة ودقيقة من تاريخ المنطقة، يسرد فيها كيف تحول أبومحمد الجولاني من رمز للتطرف إلى رمز للتحرّر.

ليست سوريا فقط من يشهد ولادة جديدة، المنطقة والعالم يشهدان معها هذه الولادة. سيكون رائعًا لو اختار الشرع كاتب سيناريو يرافقه ويسجل ملاحظات حول ما يجري اليوم وما جرى بالأمس، بدءًا بذكريات الطفل أحمد عن سنوات الطفولة الأولى، التي أثار التعرض إليها في لقاء معه تعاطف المملكة العربية السعودية.

من يحاول البحث عن نشأة الجولاني سيواجه بكم من معلومات متضاربة، بدلاً من أن تساهم في إزالة الغموض، تعمقه. حتى في أبسط المعلومات المتعلقة باسمه الحقيقي أو تاريخ ومكان ميلاده وجنسيته. وبينما تقول تقارير الأمم المتحدة إن الشرع وُلد بين عامي 1975 و1979، تفيد تقارير أخرى بأنه وُلد عام 1981 أو عام 1982.

وإذا كان الغموض يضفي جاذبية على صاحبه، إلا أنه مبعث خشية أيضًا. وفي وضع مثل الوضع الذي تمر به سوريا، لن يخدم الغموض الشرع ورفاقه.

هناك العشرات من المنتجين وكتاب السيناريو العرب والأوروبيين والأميركيين سيعتبرون أنفسهم محظوظين لو وجدوا مدخلاً لإنتاج عمل درامي حول شخصية أثارت المشاعر والخيال مثل شخصية الشرع.

يمكن أن ننسى مؤقتًا تضارب المعلومات والتقارير حول نشأته الأولى، ونأخذ بما جاء على لسانه من أن اسمه الثلاثي الحقيقي أحمد حسين الشرع، وأن اختياره لقب “الجولاني” كان للدلالة على روابط عائلته بمرتفعات الجولان السورية، وأن تاريخ ميلاده كان عام 1982 في العاصمة السعودية الرياض، حيث عمل والده مهندسًا للنفط حتى عام 1989، بعد ذلك عادت عائلته إلى دمشق، حيث نشأ وعاش في حي المزة، وهو حي تقطنه طبقة متوسطة ميسورة.

أحمد الشرع هو أفضل من يتحدث عن هذه الفترة لأنه خبرها من الداخل، وهو قادر على وضع الحقائق أمام الجميع. لهذه الأسباب التحق بالقاعدة والنصرة، ولهذه الأسباب ابتعد عنهما

وتذكر المعلومات القليلة عنه أنه درس الطب في دمشق لمدة عامين، قبل أن يترك سنته الدراسية الثالثة للانضمام إلى تنظيم القاعدة في العراق.

لماذا اختار أحمد الشرع أن يهجر الحياة الجامعية ويلتحق بجماعة جهادية، وكان بإمكانه أن يكون طبيبًا ويعيش حياة عائلية مستقرة؟ هل للانخراط مع جماعة إرهابية تؤمن بتأسيس الخلافة، أم للانضمام إلى معارضة تهدف إلى التخلص من نظام قمعي؟

حتى الآن، تم نقل ما حدث من طرف واحد منحاز لصورة قاتمة مسبقة عن الجولاني ورفاقه الذين لم يكتفوا بمواجهة الظلم بقلوبهم ولسانهم، واختاروا حمل السلاح.

أهم ما في المذكرات، إن كتب لها أن ترى النور، سيكون الجزء الذي يتحدث فيه الشرع عن السبب الذي أبعده عن القاعدة وجبهة النصرة. ويبدو لي مسبقًا أن الفجوة حدثت لاختلاف في التفكير؛ بينما تؤمن القاعدة بالجهاد من أجل الجهاد ونيل الشهادة، كان الجهاد بالنسبة إلى الشرع وسيلة لإقامة الدولة. وهذا ما ظهر بوضوح بعد تسلمه مسؤولية قيادة المرحلة الانتقالية. كانت الحقيبة جاهزة دائمًا بما يصلح للمرحلة المقبلة.

هل غيّر الجولاني خطابه فجأة وبات يقدم نفسه رجل دولة براغماتيّا، وانتقل بخطابه من فكر الجماعة الجهادية إلى الحديث عن بناء الدولة، وفق كل مرحلة ومقتضياتها وضرورياتها؟

يمكن الاستنتاج من المعلومات السابقة أن رحلة الجولاني إلى العراق للجهاد بدأت عندما كان في العشرين من عمره، انضم حينذاك إلى تنظيم القاعدة. وبعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 انضم إلى مقاتلين أجانب آخرين، وفي عام 2005 سُجن في معسكر بوكا، حيث عزز انتماءاته الجهادية، ثم تعرف لاحقًا على أبوبكر البغدادي، الذي سيكون له تأثير كبير على مسيرته.

في عام 2011 أرسله البغدادي إلى سوريا لإنشاء جبهة النصرة، التي سرعان ما أصبحت قوة قتالية سورية بارزة، تخفي علاقاتها بتنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة.

برزت التوترات عام 2013 عندما أعلنت جماعة البغدادي في العراق من جانب واحد اندماج المجموعتين (دولة العراق الإسلامية وجبهة النصرة)، معلنة إنشاء الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وكشفت علنًا عن الروابط بينهما.

الجولاني الذي أراد أن ينأى بمجموعته عن التكتيكات العنيفة لدولة العراق الإسلامية، قاوم القرار، وللخروج من هذا الموقف المعقد الذي وجد نفسه فيه، تعهد بالولاء لتنظيم القاعدة، وجعل من جبهة النصرة فرعها السوري.

ومنذ البداية، وفي كل المراحل لم ينس أن الأولوية هي كسب الدعم السوري، نائيا بنفسه عن داعش ومتبنيًا نهجًا أكثر براغماتية.

الانتماء إلى تنظيم القاعدة لم يخدم سعي الجولاني لتجنب رفض فصائل المعارضة والسوريين، وكانت النقلة الثانية عندما قطع علاقته بالتنظيم عام 2016، وأعاد تسمية الجماعة باسم جبهة فتح الشام ثم هيئة تحرير الشام في عام 2017.

وسرعان ما تكشّفت الانقسامات العميقة من وراء الانقسام السطحي، ما أدى إلى انشقاقات وتشكيل حراس الدين، وهو فرع جديد لتنظيم القاعدة في سوريا، سحقته هيئة تحرير الشام في عام 2020. ومع ذلك، ظل أعضاء حراس الدين حاضرين بحذر في المنطقة.

استهدفت هيئة تحرير الشام عملاء تنظيم الدولة والمقاتلين الأجانب في إدلب، وفككت شبكاتهم وأجبرت بعضهم على الخضوع لبرامج “إزالة التطرف”. وأشارت هذه التحركات إلى إستراتيجية الجولاني لوضع هيئة تحرير الشام كقوة مهيمنة قابلة للاستمرار سياسيًا في سوريا.

الانتماء إلى القاعدة لم يخدم سعي الجولاني لتجنب رفض فصائل المعارضة والسوريين، وكانت النقلة الثانية عندما قطع علاقته بالتنظيم عام 2016، وأعاد تسمية الجماعة باسم جبهة فتح الشام ثم هيئة تحرير الشام

الانتقال من شخصية أبومحمد الجولاني إلى شخصية أحمد الشرع لم يستغرق طويلا، والسبب وراء ذلك واضح؛ الجولاني (المجاهد) حافظ دائمًا في داخله على شخصية أحمد الشرع (رجل الدولة) الذي التف حوله السوريون، وسرعان ما حصد دعم دول المنطقة ودول العالم.

كان أحمد الشرع واثقًا من أن الإدارة الأميركية ستلغي المكافأة التي وضعت لمن يقدم معلومات تقود إلى إلقاء القبض عليه.

ساهمت أحداث عشرة أيام تلت “تحرير” دمشق في قلب الصورة؛ مشاهد التعذيب المروعة والمجازر التي ارتكبها النظام السابق والمقابر الجماعية كانت كفيلة بإحراج قضاته في الغرب. ويمكن أن نقول إنها أحرجت المعارضة السورية، خاصة المقيمة خارج سوريا.

مشاهد فرحة السوريين بسقوط النظام، التي نقلتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، كانت كافية لإسقاط كل التهم التي ألصقت بالجولاني ورفاقه. وكان سلوكهم الحضاري وانفتاحهم على الجميع ودعوتهم إلى احترام الاختلاف والتعددية وتأكيدهم أن سوريا وطن للجميع، مفاجأة دفعت الجموع إلى التوافد على دمشق للالتقاء بالشرع وعرض المساعدة للنهوض بسوريا.

عشرة أيام كانت كفيلة برفع الستار عما حدث خلف الجدران في “جمهورية الرعب”. ليسقط من يد الجميع، ويشعر كل من مد يده إلى النظام السوري يومًا بالحرج.

بعد سقوط النظام فهم العالم لماذا هاجر أكثر من نصف السوريين تاركين وراءهم بيوتهم وذكرياتهم ليعيشوا في المنافي.

الآن هو الوقت المناسب لأحمد الشرع ليستفيد، وتستفيد معه السلطة الناشئة من تقديم جرد يتضمن فترة القاعدة والنصرة، بحلوها ومرها، من جوانبها المظلمة والمشرقة.

كسب الشرع نصف المعركة، النصف الباقي هو الأكثر صعوبة. المتضررون من سقوط النظام السوري، داخل البلاد وخارجها، يتربصون به وينتظرون فرصة الانقضاض عليه، نصلي كي لا تحدث.

سينتظر المتربصون أي قرار يصدر عن الشرع والسلطة الناشئة التي يمثلها بحثًا عما يشير، ولو من بعيد، إلى تقييد الحريات الشخصية أو حرية المرأة، لتأليب العالم عليه. والأخطر أنهم سينبشون الماضي بحثًا عما يشوه صورة الشرع ورفاقه، هذا الماضي الذي تمثله فترة القاعدة والنصرة.

أحمد الشرع هو أفضل من يتحدث عن هذه الفترة لأنه خبرها من الداخل، وهو قادر على وضع الحقائق أمام الجميع. لهذه الأسباب التحق بالقاعدة والنصرة، ولهذه الأسباب ابتعد عنهما.

الشفافية هي أكثر ما تحتاج إليه سوريا في هذه المرحلة، وأكثر ما يحتاجه أحمد الشرع.

علي قاسم – كاتب سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة