سوف يظل هاجس دول الجوار يؤرق العرب في مستقبلهم القريب والبعيد، وأخص هنا دولاً مثل إيران وتركيا وإسرائيل فضلاً عن منطقة القرن الأفريقي، ولعلي أخص من بينها دولة إثيوبيا في شرق القارة السمراء، ولكنني أركز في هذا المقال على العلاقات الإيرانية العربية والعلاقات التركية العربية، وانعكاس ذلك على سياسات كل من طهران وأنقرة ودورهما الإقليمي، ذلك أن إسرائيل ملف خاص أصبح كتاباً مفتوحاً لكل من يعرف سياساتها التوسعية والعنصرية، كما أن إثيوبيا هي دور أفريقي جديد يطرح نفسه على الساحة مستثمراً وضعه بين دول حوض نهر النيل وقدرة أديس أبابا على اختلاق المتاعب، وتنفيذ مخططات كيدية ضد بعض دول الجوار وفي مقدمتها مصر والسودان، ولذلك فإنني أركز في السطور التالية على العلاقات التركية الإيرانية والتنافس المكتوم بينهما من أجل إرضاء الأطماع الإقليمية لكل منهما. وتاريخ العلاقات بين هاتين القوتين والعالم العربي تاريخ طويل فيه كثير من الصراعات والتحالفات، خصوصاً أن مظلة الإسلام الحنيف تغطي هاتين الدولتين والدول العربية أيضاً، وقد يتصور البعض أن الدين المشترك يؤدي إلى تفاهم أكثر، وليس ذلك دقيقاً لأنه يفتح الباب لاندماج أوسع وتنافس أشد، وإذا أخذنا الدولتين كل على حدة في علاقاتهما الطويلة بالعرب، فسوف نجد أن الأمر يختلف بالنسبة إلى إيران عنه بالنسبة إلى تركيا، فالفرس والترك تعايشا مع العرب عبر القرون، وعلى الرغم من الصراعات التي احتدمت بين الدولة الصفوية الشيعية في إيران والدولة العثمانية السنية في تركيا، إلا أن الأمر لم يختلف كثيراً على مستوى علاقات كل من القوتين الإقليميتين تجاه العرب، خصوصاً دول الجوار لكل منهما. نعم تختلف تركيا في سيطرتها شبه الكاملة على معظم أنحاء الخريطة العربية لعدة قرون تحت مظلة الخلافة الإسلامية، وهي على كل حال قرون من الظلام تحتاج إلى مراجعة أمينة، لأن الأتراك كانوا حديثي عهد بالإسلام، وهم في معظمهم رعاة وقبائل تتسم بالعنف قادمة إلى هضبة الأناضول من أواسط آسيا، فاستقر بهم الأمر لكي يحكموا الرقعة الأكبر من العالم الإسلامي، تحت عمامة الخلافة وعباءة السلطان القابع في الأستانا، لذلك كان احتكاك الترك بالعرب أطول زمناً وأكثر اندماجاً مما هو الأمر بالنسبة إلى الفرس، ولكن احتكاك أهل فارس بالدولة الإسلامية منذ العصر الأموي يبدو أقدم زمناً وأكثر ندية، فالدولة العباسية إذ زخرت بالعجم مع دخول الموالي في الإسلام، فكان إسهام الفرس في العصر العباسي وما بعده إسهاماً مشهوداً ومذكوراً في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، ودعنا الآن نبسط ما أوجزناه من خلال النقاط التالية:
أولاً: إذا أردنا أن نبحث في تأثير العلاقات الدولية في الأوضاع الإقليمية مع قراءة صادقة لدور كل من تركيا وإيران في المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة، فإننا يجب أن ندرك بداية أن تركيا دولة عضو في حلف الأطلنطي، وكانت لديها طموحات قوية في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلا أن سياسات أردوغان في السنوات الأخيرة، أصبحت عقبة في سبيل تحقيق ذلك الهدف، وعلى الرغم من كل التنازلات الظاهرية التي قدمها زعيم حزب العدالة والتنمية في تركيا، فلقد تجلت أطماعه في محاولة بعث التاريخ العثماني بأمجاده المزعومة فضلاً عن أهمية حماية المكاسب الحالية، التي حققها النظام التركي سواء من رعايته لتنظيم داعش الإرهابي أو المضي في ترهيب دولتي اليونان وقبرص، وصولاً إلى التدخل السافر في الأزمة الليبية وهو أمر اتخذت فيه بعض الدول مواقف حازمة ضد سياسات أردوغان خصوصاً فرنسا ومصر.
ثانياً: إن التحام التاريخ الفارسي بالوجود العربي يختلف عن الاندماج التركي بالدول الإسلامية في المنطقة العربية وخارجها بدءاً من أواسط آسيا، وصولاً إلى أطراف البلقان، مروراً بجنوب البحر المتوسط وشرقه، عندما كان الترك هم سادة المنطقة في ظل حكم آل عثمان، ونلاحظ هنا أن الأمر يختلف بالنسبة إلى الفرس، الذين تحتوي قوميتهم عناصر تركية بحكم الهجرات التاريخية والجوار الجغرافي على نحو أدى إلى القول، بأن التركيبة الإيرانية هي تركية في أصولها مع اختلاط بالكرد وبعض العناصر القوقازية في خليط بشري أدى إلى ظهور الثقافة الفارسية بالصورة التي عرفتها دوائر الحكم وقصور الخلفاء عبر التاريخ الحضاري للدولة الإسلامية، ولعلنا نتذكر الآن البرامكة في عصر الخليفة العباسي، الذي بطش بهم تخلصاً من النفوذ الفارسي على عرشه، ولقد ظل دور إيران محدوداً ومحكوماً في المنطقة العربية، إلى أن اندلعت الثورة الإسلامية عام 1979، فإذا بالإيرانيين يتحركون وفقاً لأيديولوجية جديدة ظاهرها الإسلام وباطنها الرغبة في السيطرة على المنطقة كلها، إعمالاً لمبدأ تصدير الثورة الذي اعتنقه الإمام الخميني وخلفاؤه، ولقد ترددت مقولة على لسان الإمام الراحل يقول فيها، إن العرب حكموا الدولة الإسلامية عدة قرون ثم تلاهم الترك لعدة قرون أخرى، وقد جاء دور الفرس لكي يقودوا الأمة الإسلامية في ظل المبادئ الجديدة التي طرحتها الثورة الإسلامية في إيران، واللافت للنظر أن ردود الفعل التركية للثورة الإسلامية في إيران لم تكن حادة، أو عنيفة بل تعاملت معها أنقرة باعتبارها حقيقة دون النظر للملابسات والظروف.
ثالثا: إن الذي يرصد طبيعة العلاقات التركية الإيرانية، سوف يلحظ تمتعها بدرجة من الاستقرار عبر القرون الأخيرة، أو على الأقل لم نشهد صدامات بين هاتين الأمتين المتجاورتين، على الرغم من تنافسهما المكتوم على المنطقة العربية، وإن اختلفت وسائل كل منهما، فالنفوذ الإيراني أيديولوجي النزعة بينما الأطماع التركية اقتصادية التوجه، وبرغم الصراع المكتوم إلا أن التنسيق بين أنقرة وطهران أمر قائم مع التباين الواسع في الموقف الظاهري لكل منهما تجاه الدولة العبرية إسرائيل، وذلك أحد الألغاز التي يصعب تفسيرها على الساحة الإقليمية، فالتنافس بين تركيا وإيران قائم، ولكن الصدام غير وارد، وهذا أحد معادلات التوازن على حدود الأمة العربية والتخوم المجاورة لها شرقاً وشمالاً.
رابعاً: تنظر الدولتان تركيا وإيران كل منهما إلى الأخرى، بمنطق التكامل الجغرافي والانصهار التاريخي، وتحتوي العاصمتان أسباب الخلاف في حنكة وروية وهدوء، ولو نظرنا إلى موقف العاصمتين طهران وأنقرة من الأزمة السورية، فسوف ندهش للتباين بين موقفيهما، وقدرة كل منهما على الاحتفاظ بوجهة نظرها، على الرغم من الاختلاف في التوجهات والتباين في الرؤى، والملاحظ أن العلاقات الإيرانية التركية يمكن أن توصف بأنها علاقات راسخة استفادت من التجربة التاريخية ومن تراكم الصراعات السابقة، لتضع صيغة جديدة للتعامل المستمر المستقر بين الدولتين ومعرفة كل طرف أين يقف في مسار شهوته المادية والمساحة التي يتحرك فيها بما لا يضر مصالح الطرف الآخر.
خامساً: يجب أن نعترف إذا أردنا دراسة الحالة الإيرانية والحالة التركية والعلاقات بينهما، أن موقف الغرب يختلف تجاه أنقرة اختلافاً جذرياً عن ذلك الذي يحكم العلاقات مع طهران، فالولايات المتحدة الأميركية كانت ولا تزال محكومة بشعور النظام المدلل للغرب الذي تجري غفران تجاوزاته ونسيان خطاياه، ولعل المباحثات الغربية مع إيران حول برنامجها النووي كان تطبيقاً واقعياً لذلك التصور، فالأميركيون والغرب عموماً يتعاملون مع أردوغان باعتباره ظاهرة مقبولة لا تهدد مصالحهم في المنطقة، بل على العكس، يمكن أن يأتي منها وجود فزاعة تركية وأخرى إيرانية تلعب بهما الولايات المتحدة والغرب عموماً للتأثير في معنويات العرب وقهر إرادتهم.
إن الحوار الصامت بين طهران وأنقرة لا يغطي على جراح قائمة، ولكنه يفتح آفاقاً جديدة للتعاون المشترك على حساب الجوار العربي، الذي يدركان جيداً أن قدرته محدودة على التغيير، وعندما تدرك الأطراف الأخرى ذلك، فإن ميزان القوى ليس في صالح الدول العربية على الإطلاق.
مصطفى الفقي- كاتب وباحث- عن اندبندت عربية
المقالة تعبر عن راي الكاتب والصحيفة