الحرص على عدم تجاوز الخطوط الحمر بين موسكو وأنقرة مرده إلى التوازنات الدقيقة وحجم المخاطر والمقاربة التاريخية للعلاقة بين الجانبين في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي.
يعتمد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شعار “العالم أكبر من خمسة” (في إشارة إلى الأعضاء الدائمين الكبار في مجلس الأمن الدولي)، وينطلق من الإرث العثماني والنهج الأتاتوركي لتصحيح مسارات تاريخية من المشرق العربي والبحر الأبيض المتوسط إلى آسيا الوسطى.
وغالبا ما تتنافس تركيا مع روسيا أو تتواجه معها على أكثر من مسرح في هذه الرقعة المخترقة بالنزاعات وخاصة ما يتصل بجوار تركيا القريب في شمال سوريا، والحديقة الخلفية لروسيا في ناغورني قره باغ. إزاء هذا التجاذب بين ورثة إمبراطوريتين غابرتين، يتعامل “القيصر الجديد” فلاديمير بوتين بمرونة لافتة بسبب مصالحه الجيوسياسية والاقتصادية مع أنقرة التي يريد إبعادها عن الناتو، لكن محاولة “السلطان الجديد” مناكفته وتسجيل نقاط في ملف حساس جنوبي القوقاز ربما تدفع سيد الكرملين إلى ردود فعل تحبط المساعي التركية قبل صحوة الولايات المتحدة من سباتها الانتخابي.
في أواخر سبتمبر الماضي، شن الرئيس الأذري إلهام علييف بتشجيع من أردوغان هجوما لاستعادة ناغورني قره باغ الإقليم الذي خسرته باكو بعد حرب بداية التسعينات من القرن الماضي، وكان الرئيس التركي يعول على إحراز نجاح رمزي يتيح له التفاوض مع موسكو على مخارج أو حلول في سوريا وليبيا وكذلك ملفات الطاقة، وعندها يتفاخر أمام شعبه كي ينسى معاناته أزمة اقتصادية متفاقمة. بيد أن هذه الاستراتيجية لا تخلو من المخاطر حيث لن تسمح روسيا بخرق التوازنات وهزيمة أرمينيا خاصة أنه يمكن أن يخرج النزاع عن السيطرة وقد يؤدي إلى تصعيد التوترات مع إيران وتمدد الصراع إلى الجمهوريات الانفصالية لأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في جورجيا المجاورة.
ولا يمكن عدم الربط بين الاندفاع الأردوغاني جنوبي القوقاز مع مشاكل تركيا على الجبهات الأخرى إذ أن الهجوم المضاد لقوات غرب ليبيا بدعم من الرئيس التركي توقف أمام خط سرت – الجفرة، وأن معركة إدلب لم تكن لصالح القوات الموالية لتركيا في سوريا، ولم تنجح أنقرة في إنهاك السيطرة الكردية على شرق الفرات في سوريا، وأخيرا اضطرت تركيا إلى التراجع التكتيكي في شرق البحر المتوسط تحت ضغط ثلاثي من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والأوروبيين. لذلك قرر الرئيس التركي تحويل الأنظار أو تشجيع إذكاء النزاع ألأرمني – الأذري والتلويح بالفزاعة الأرمنية كأفضل وسيلة لتأجيج الشعور القومي التركي والإسلامي ضد أرمينيا المسيحية. ومن ناحية الأسلوب هذه المرة، تبنى أردوغان النهج غير المباشر من خلال استهداف ناغورني قره باغ، بالوكالة، دون المخاطرة بهجوم مباشر على الأراضي الأرمنية مما كان سيؤدي بلا شك إلى رد مباشر من روسيا التي ترتبط مع أرمينيا بمعاهدة دفاعية.
وهذا الحرص على عدم تجاوز الخطوط الحمر بين موسكو وأنقرة مرده إلى التوازنات الدقيقة وحجم المخاطر والمقاربة التاريخية للعلاقة بين الجانبين. في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، تم ضبط الصراعات حول الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى نظرا للمصالح المشتركة وهموم المرحلة الانتقالية. لكن يقظة “القومية التركية” والدعوات إلى تحالف تركي مع دول مستقلة حديثا وناطقة بالتركية، خصوصا أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان، قابلهما تحذير موسكو من انهيار العلاقات الأمنية والاقتصادية بين الدول الجديدة وروسيا القلقة أيضا من تسلل وتمركز الجماعات الإسلامية المتطرفة. ولهذا لجأ حكم “العدالة والتنمية” إلى أساليب القوة الناعمة عبر الأبعاد الثقافية والتربوية والإعلامية والمسلسلات الناطقة بالتركية، وصولا إلى تأسيس “مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية” في العام 2009، من دون بلورة سياسة صدامية مع روسيا في آسيا الوسطى. لكن في جنوب القوقاز تحديدا كان موقف تركيا أكثر هجومية لقربه الجغرافي ولثقل المسألة الأرمنية على التاريخ التركي.
بالرغم من هذا الجهد الأردوغاني من الواضح أنه بعد حوالي شهر على هجوم أذربيجان والاستعانة بالخبرات التركية والمقاتلين الأجانب، لم يحصل تغيير كبير أو تقدم حاسم لقوات باكو إذ لا تسمح علاقة القوى المتوازنة نسبيا بين أرمينيا وأذربيجان لأي من الطرفين المتحاربين بشن حرب خاطفة منتصرة ضد أراضي الطرف الآخر، ناهيك عن طبيعة منطقة ناغورني قره باغ الجبلية للغاية والتي يمكن للأرمن الدفاع عنها. ولذا على الأرجح أن ينتهي الأمر إلى حرب استنزاف، ما يترك الوقت للرئيسين التركي والروسي للتفاوض، ومقايضة أردوغان لفك الارتباط عن جنوب القوقاز مقابل المساومة مع الكرملين في ملفات أخرى أو الحصول على صمته أو تغاضيه.
في شمال سوريا تفادت موسكو الصدام الواسع مع أنقرة
يجدر التذكير أنه خلال مواجهات ما بعد 1994 وخاصة في 2014 و2016 في الإقليم المتنازع عليه، كانت روسيا اللاعب الأول وتركيا بعيدة عن مواقع التأثير. لكن ما حصل بعد 2012 في سوريا وتزامن مع تركيز سلطتي بوتين وأردوغان أخذ يخلط الأوراق بين الجارين الكبيرين. حيث إن “الانتقام الروسي من التاريخ” انطلاقا من سوريا أحدث تدهورا كبيرا للعلاقة مع أنقره إثر إسقاط تركيا مقاتلة روسية في سوريا في نوفمبر. لكن بعد محاولة الانقلاب في تركيا في صيف 2016 وسقوط مدينة حلب بيد النظام وبقيادة روسية، اتخذ الرئيس الروسي قرارا باحتواء تركيا بدل مجابهتها وقاد ذلك نحو تدشين حقبة من علاقات وثيقة ومتباينة بين موسكو وأنقرة في آن معا.
في شمال سوريا تفادت موسكو الصدام الواسع مع أنقرة وحاولت تركيا بقوة الاحتفاظ بالنفوذ في “جيب إدلب” والمناطق التي دخلتها ضمن عمليات “درع الفرات” في 2016 و”غصن الزيتون” في 2015 و”نبع السلام” في 2019 وعينها دوما على نفوذ “قوات سوريا الديمقراطية” في شرق الفرات وقد حاول أردوغان مرارا الاستفادة من التنافس الأميركي – الروسي لتسجيل نقاط، لكن هامش مناورته لا يبدو كبيرا. بعد تمدد اهتمامها صوب جبال القوقاز، وجدت تركيا نفسها مضطرة إلى إعادة ترتيب أوراقها في الشمال السوري وسحب نقاط مراقبتها المحاصرة من النظام وخصوصا في مورك شمال حماه.
وتأتي هذه الخطوة الاستباقية قبل هجوم منتظر ترعاه روسيا (ربما ضمن ردود الفعل على حرب ناغورني قره باغ) في إدلب والسعي لحصر الفصائل والجهاديين في شريط ضيق بالقرب من الحدود التركية. ومن الاحتمالات الأخرى شن أردوغان لهجوم جديد على الفصائل الكردية ضمن عملياته المنهجية في الشمالين السوري والعراقي.
يبدو مبكرا إجراء جرد لحصاد التجاذب الروسي – التركي ونتائجه الاستراتيجية. لكن دعوة روسيا بإصرار في 23 أكتوبر إلى إخلاء ناغورني قره باغ من المرتزقة يرن كجرس إنذار في وجه تركيا، لأن موسكو التي وضعت ضمن استراتيجيتها السورية إبعاد الخطر الإسلامي السياسي وعدواه في جوارها وأراضيها، ها هي تكتشف أن صديقها وغريمها أردوغان أدخل “الأممية الإسلامية” إلى حديقتها الخلفية. ويمكن الإشارة إلى أن النجاح التكتيكي الواضح للطائرات التركية من دون طيار في ليبيا وسوريا وناغورني قره باغ يشكل غمزا من قناة التفوق التكنولوجي وتطور الصناعة العسكرية التركية في سياق تنافس موسكو وأنقرة. ولذا لن تسمح موسكو طويلا بنشأة وضع غير مريح على الأرض يحرمها من لعب الدور الحاسم بين أرمينيا وأذربيجان.
هكذا يبدو التنافس محموما بين روسيا وتركيا لكنه محكوم بسقف قواعد الجوار وموازين القوى العسكرية الدقيقة. وسيفرض التفاوض نفسه بين القيصر والسلطان. لكن مسعى تركيا للاقتداء بموسكو والانتقام من عثرات تاريخها سيصطدم أكثر فأكثر بالمشاريع الإمبراطورية الأخرى من روسية وإيرانية وصينية وكذلك بمواقف أوروبية أكثر جرأة، وبصفارة النهاية الأميركية في الوقت المناسب.
د. خطار أبودياب – أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة