لا نقول جديداً عندما نعدّد التدخلات الإيرانية والتركية في الدول العربية المأزومة في كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا. إنّ هذه التدخلات مستمرة منذ سنوات عدة. وهي مختلفة من حيث العمق والتجذر؛ لكنها في شتى تلك الدول صارت عاملاً أساسياً في التأزم والاضطراب المستمر. والطرفان في بلدٍ مثل سوريا دخلا معاً في مثلث رأسه روسيا الاتحادية، وبينهما نوعٌ من التنسيق بالعراق وإن تكن إيران أقوى، بينما تنفرد إيران في لبنان واليمن، وتنفرد تركيا في ليبيا.
كل هذا ليس جديداً، وصار واقعاً لا يمكن إنكاره، كما لا يمكن التسليم به من شعوب تلك البلدان، ومعظم العرب. إنما الجديد في ثنايا هذا الواقع المقبض أمران: وقائع وتداعيات الانسحابات الأميركية، وإقبال مصر على التفاوض مع تركيا.
ماذا يعني الانسحاب الأميركي، وماذا تعني السياسات العربية الجديدة في التفاوض أو التواصل بعد قطيعة وانقطاع؟
لقد افتتح هذه المرحلة من الاضطراب في الحياة العربية المعاصرة الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وأكملت أو فاقمت من هذا الاختلال حركات «التغيير» العربية عام 2011 التي زعزعت الحكومات القائمة، ثم صعود التطرف والإرهاب في عددٍ من تلك البلدان. وهكذا، فإنّ التدخل العسكري الأميركي الذي أحدث هذا الاختلال، حوَّل كل نزاعٍ بالمنطقة (خارج المسألة الفلسطينية المدوَّلة أصلاً) إلى نزاعٍ دولي. فبعد الأميركيين تدخل الروس في سوريا على وقع الثوران والاضطراب هناك، وعلى حواشي الدوليين وأحياناً بالاشتراك معهم تدخل الإيرانيون فالأتراك في كل مكان.
بول كنيدي مؤرخ سقوط الإمبراطوريات، لا يقول هذه المرة عن الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، ما سبق أن قاله عن تراجع وسقوط الإمبراطورية البريطانية بسبب العجز عن تحمل أعباء الإنفاق الكبير، وتنمر حركات التحرير في آسيا وأفريقيا. بل يذهب إلى أنّ الانسحابات الأميركية «استراتيجية» وصادرة عن الفهم الجديد للمصالح والتحديات. فهي ليست نابعة من «مبدأ مونرو» للانعزال، والمدينة الفريدة التي على الجبل. عندها جاران حليفان هما المكسيك وكندا، وكل «الأقطاب» الآخرين أو المتنطحين ليكونوا أقطاباً، محيطهم مليءٌ بالخصوم والأعداء. وهكذا يكفيها تأمين محيطها في المحيطين (إذا صحَّ التعبير) الهادي والأطلسي. ولا داعي لدولة الاستعمار والفتح، ولا لدولة الرسالة المعنية بنشر الديمقراطية في العالم. هو تفكيرٌ جديدٌ لا يشاركها فيه الرئيس بوتين ولا حتى الصين صاحبة مشروع: الحزام والطريق (2013).
وهكذا كان للانسحاب أو الانسحابات تداعيات على الخصوم وعلى الحلفاء. فالخصوم ومن الروس إلى الإيرانيين والأتراك ربما مشوا ويمشون في سياسات ملء الفراغ. وهي الممارسة التي دخلت فيها حتى فرنسا بالعناية بلبنان (وإن بالاشتراك مع طهران)، وعقد اتفاقيات اقتصادية ضخمة مع العراق، وإن ليس من دون علم طهران!
لقد كان الاعتقاد أنّ اندفاع إيران للتوسع ليس سببه الرئيسي مبدأ تصدير الثورة (بل هو ذريعته!)، وإنما الحصار الأميركي. والحصار الأميركي يتفكك تحت أضواء الاستراتيجيات الجديدة التي تستتبع سياسات جديدة. فهل تظل إيران معنية بملء الفراغات أو خلق مناطق النفوذ المكلفة وغير المؤثرة إلا في نشر الاضطراب والنزاعات الداخلية في البلدان؟ لا يحتاج الإيرانيون إلى كل هذه الميليشيات في العراق وسوريا ولبنان إلا إذا أصرُّوا على رسالة التشيع والتشييع المهدوية، وهي لا تصلح لدولة من دول القرن الحادي والعشرين، إلا إذا اعتبرنا أنّ هذه هي عقلية الملالي المفوَّتة، وهم ليسوا كذلك فيما يظن كثيرون.
ولنصل إلى الأتراك. حجتهم في التدخلات كانت الخطر على الأمن التركي من الأكراد. لكنّ استراتيجية شرق المتوسط والنفط والغاز هي التي أدخلتهم إلى ليبيا. وقد كانوا يعتقدون أنّ حاجة الولايات المتحدة إليهم لموازنة النفوذ الروسي ستجعلها تقف على الحياد. لكنها انحازت إلى أوروبا، كما غضب الأميركيون للاقتراب التركي من روسيا. وهي شديدة الاهتمام الآن بخروج ليبيا من النزاع الداخلي، وهو اهتمامٌ أوروبي أيضاً. لقد تبين لتركيا أنه لا الأميركيون ولا الأوروبيون حريصون على تركيا وموقعها الاستراتيجي ووجودها في حلف الأطلسي: فهل تدفع البرودة الأميركية إلى نوعٍ من الهدوء في السياسات التركية، مثلما يمكن أن يدفع ذاك الغياب إيران بالاتجاه ذاته؟!
روسيا بالطبع (وربما الصين؟) لن تخرج الآن من تكتيكات ملء الفراغ، والضغط للتبادل مع أميركا وأوروبا في شرق أوروبا والبلقان والشرق الأقصى والمحيط الهندي وأفريقيا.
أما إيران وتركيا، اللتان تتحملان أعباء مادية واقتصادية واجتماعية: فهل تخرجان إلى ضرورة الالتفات إلى أهل المنطقة والحديث معهم عن الأمن المشترك، والمصالح المشتركة، بدلاً من الركض وراء «الصفقة» المغرية مع أميركا المنسحبة؟
إنّ من حق الدول العربية الكبرى وواجبها في أمنها ومحيطها العربي الاستراتيجي، أن تنظر في إمكان «تعقُّل» الإيرانيين والأتراك بعد تراجع الأميركيين عن التحدي وعن الصفقات في الوقت نفسه!
يتحدث المصريون إلى الأتراك عن أمن شرق المتوسط وعن ليبيا. ولا يبدو التواصل مؤثراً جداً حتى الآن. فالأتراك ازدادت رحلاتهم الجوية إلى مطار «الوطية»، ويُظهرون رفضاً للوساطات الأوروبية والأميركية وصولاً لانتخابات ديسمبر (كانون الأول) في ليبيا. وعلى الجانب السعودي تزداد المسيَّرات والباليستيات الإيرانية الصنع باتجاه السعودية والاندفاعات باتجاه مأرب والبيضاء وشبوه والجوف!
كان الأميركيون يقولون إنهم في الشرق الأوسط بعد البريطانيين لأنهم يريدون ملء الفراغ والحيلولة دون انتشار الشيوعية! واليوم وهم ينسحبون بعد ستين عاماً يطمح الإيرانيون والأتراك للحلول محلَّهم وإنْ مع الروس. والعرب الكبار يقولون الآن للإيرانيين والأتراك ليس هناك فراغ في المنطقة العربية، وهناك مصالح مشتركة ينبغي التفكير فيها فيما وراء الميليشيات والمرتزقة والمسيَّرات!
رضوان السيد – كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة