دمشق °C

⁦00963 939 114 037⁩

رأي – الإعلام السوري في واد.. وإعلام العالم في واد آخر

العالم يعيش في عصر المدونات ويصنعه مؤثرون شباب يعملون من مكاتب صغيرة في غرف نومهم وليس من قلاع إعلامية تحيط بها المصفحات لا يكترث أحد بما تبثه من سموم.

عصر صناع المحتوى والمدونين
بين عامي 1918 و1947، صدرت في سوريا أكثر من مئة صحيفة يومية، والعشرات من الصحف الأسبوعية والشهرية، كانت ملكيتها تعود حصرا للقطاع الخاص. بعدها، بدأ العدد يتناقص إلى أن اختفت مع حكم البعث وآل الأسد.

والغريب أن بداية هذه الفورة الإعلامية تزامنت مع نهاية الحرب العالمية الأولى، التي شهدت هزيمة الدولة العثمانية وانتهاء سيطرتها على سوريا التي وضعت تحت الانتداب الفرنسي. والأكثر غرابة أن تنتهي الفورة الإعلامية مع نيل سوريا استقلالها عن فرنسا عام 1946.

لا يمكن أن نتجاهل العلاقة بين هذه التواريخ والخروج باستنتاج واضح أن نهاية الإعلام تزامنت مع بداية الدولة الوطنية.

شيء مشابه حدث في مصر، التي خضعت للانتداب البريطاني منذ عام 1882، وأعلنت مملكة مستقلة في عام 1922، وظلت تدار بالعقلية البريطانية إلى أن أطاحت ثورة 23 يوليو – تموز 1952 بالنظام الملكي، وأُعلن عن قيام نظام جمهوري تقوده مجموعة من الضباط وصفوا أنفسهم بـ”الأحرار”.

◄ خلال 6 عقود، لم يكن في سوريا إعلام، ولكن في نفس الفترة كان هناك إعلاميون مُورست عليهم أبشع أنواع الضغوط والتخويف. وهذا ما يفسر الاتجاه إلى الإنتاج الدرامي

يمكن القول إن نفس هذا التاريخ بالضبط هو يوم وفاة الإعلام في مصر، الذي هيمن عليه أحمد سعيد وبرنامجه الشهير “أنباء الساعة”.

القصة التي تلت ذلك في سوريا ومصر معروفة؛ الدبابات والعسكر المدججون بالسلاح لم يحيطوا بالقصر الجمهوري، بل أحاطوا بمبنى الإذاعة والتلفزيون. الرسالة كانت واضحة: من يمتلك مبنى الإذاعة والتلفزيون يسيطر على البلد ويحكمها. وبهذا، أعلن عن وفاة حرية الصحافة والإعلام في البلدين اللذين ابتليا بنفس الوباء القومي.

نعود إلى سوريا، التي خضع فيها الإعلام خلال حكم حافظ الأسد لسيطرة مطلقة وصارمة من قبل الدولة. كان مجرد اقتناء آلة كاتبة (لم يكن الكمبيوتر قد اخترع بعد) دون موافقة من الجهات الأمنية يودي بصاحبه إلى التهلكة. لم يكن هناك أيّ متنفس لحرية الصحافة والإعلام، حيث كانت جميع وسائل الإعلام مملوكة للدولة أو خاضعة لرقابة مشددة.

كان الصحافيون يعملون تحت إمرة الأجهزة الأمنية، وكان يتم توجيههم لكتابة مقالات تتماشى مع سياسات النظام. وطالت الرقابة حتى الخطب التي كانت تلقى في المساجد يوم الجمعة.

وظيفة الإعلام كانت الترويج لأيديولوجيا حزب البعث وتعزيز صورة النظام، وهو ما دفع المراقبين إلى تشبيه سوريا بكوريا الشمالية من حيث الانغلاق الإعلامي.

استبشر السوريون خيرا بعد وفاة حافظ الأسد، ورغم انتقال الحكم لابنه طبيب العيون القادم من لندن، بالوراثة، إلا أنهم حاولوا تصديق ما أطلقه من وعود، وذهبوا أبعد من ذلك بأن أطلقوا على تلك الفترة اسم “ربيع دمشق” (سبقوا بذلك الربيع العربي بعقد كامل). ولكن، لأن السلطة ومعها الحرية لا تمنحان، بل تنتزعان انتزاعا، لم تستمر هذه الفترة سوى فترة وجيزة امتدت من يوليو – تموز 2000 إلى فبراير – شباط 2001.

كان الأسد الابن، الذي بدل الدستور ليصبح على مقاسه، قد أشار في “خطاب العرش الأول” يوم 17 تموز – يوليو أمام مجلس الشعب إلى أهمية – صدقوا أو لا تصدقوا – الديمقراطية وقبول الرأي الآخر.

انطلت الخدعة على المثقفين المتعطشين لتذوق طعم الحرية. وأعترف أنني كنت واحدا ممن وقعوا في الفخ، ورغم أنني كنت أعيش في تلك الفترة بلندن، إلا أنني كنت من المستبشرين.

◄ إذا كان العالم اليوم ينتظر من الإدارة السورية حصر السلاح بيدها، فآخر ما سيقبل به هو أن تقوم ببسط يدها وسيطرتها على الإعلام

وسرعان ما أقيمت في دمشق وباقي المدن السورية منتديات سياسية وفكرية غير رسمية. ليس هذا فقط، بل صدر قرار برفع حالة الطوارئ والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وصدر “بيان الـ99” الذي وقع عليه 99 مثقفا سوريا مطالبين بالإصلاحات السياسية. يا للجرأة والوقاحة!

إذا كانت مهنتك صيادا، وهذا احتمال ضئيل جدا، فإنك تعرف إلى ماذا تشير كلمة “علفة” التي يستخدمها صيادو السمك؛ إنها طعام مجاني يُرمى في البحر لجلب الأسماك وتجميعها، ثم الإيقاع بها.

سرعان ما تبين أن “ربيع دمشق” مجرد “علفة” استخدمها النظام الحاكم لتجميع المثقفين والكشف عن المعارضين. وانتهى الربيع الدمشقي في فبراير 2001 عندما قامت أجهزة الأمن بتجميد نشاط المنتديات الفكرية والثقافية والسياسية، واعتقال عدد من المعارضين للنظام.

وحرصا على الاستمرار بنفس اللعبة، سمح النظام الحاكم في سوريا بإطلاق بعض الإذاعات والقنوات التلفزيونية الخاصة، التي كانت بمثابة حصون صغيرة تحيط بقلعة الإعلام الرسمي الكبيرة وتعزز من سلطتها. كانت هذه التراخيص تُمنح فقط للأشخاص المقربين من النظام، وأشهرهم ابن خال بشار الأسد، رامي مخلوف، وهو رجل أعمال شهير يمتلك مجموعة من الشركات الكبرى في مجالات متعددة، منها الاتصالات، حيث أسس شركة “سيريتل” التي تُعتبر واحدة من أكبر شركات الهاتف المحمول في سوريا.

مع اندلاع أحداث الربيع العربي عام 2011، اتجه الإعلام في سوريا لإنكار الأحداث التي تجري داخل البلاد، وشُنت حملات قمع طالت الصحافيين الذين حاولوا نقل الحقيقة. ولكن من سوء حظ النظام الحاكم، أن السيطرة المطلقة في ظل الإعلام البديل عبر شبكات التواصل الاجتماعي كانت بحكم المستحيل، وهو ما سمح للمواطنين والصحافيين والمدونين بنقل الأخبار والحقائق.

لن يكفي بعد 61 عاما من سيطرة الحكومة المطلقة على الإعلام وتحريم الإعلام الخاص، تغيير اسم صحيفة وإجراء بعض التحسينات التجميلية الشكلية والتقنية، لضمان حرية الإعلام واستقلاليته. ما يحتاجه الإعلام في سوريا اليوم، خاصة في عصر المدونات والتواصل الاجتماعي، هو الخروج من تحت عباءة الدولة والتحرر من قبضتها.

ليس معروفا بعد ماذا سيحل بالمادة 38 من الدستور السوري التي تقول: “لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنا، قولا وكتابة، وفي كافة وسائل التعبير المتاحة.” الخوف أن تُستبدل بعبارة مشابهة تؤخذ من تصريحات وزير الإعلام السوري الجديد، محمد العمر الذي قال إن إعلام النظام السابق كان أسير توجيهات أجهزة المخابرات، مضيفا أن إعلام سوريا الحرة اليوم يعكس تطلعات الشعب وينقل صوته بصدق، ملتزما بقيمه ومبادئه الراسخة.

ألا يبدو هذا الكلام مألوفا ومكررا؟

لا تكفي تصريحات مثل هذه التصريحات، كما لا يكفي أيضا تغيير اسم صحيفة وإضفاء بعض التحسينات التجميلية لضمان حرية الإعلام.

◄ الصحافيون كانوا يعملون تحت إمرة الأجهزة الأمنية، وكان يتم توجيههم لكتابة مقالات تتماشى مع سياسات النظام. وطالت الرقابة حتى الخطب التي كانت تلقى في المساجد يوم الجمعة

على مقربة من سوريا، وفي بلد عربي هو الإمارات، اجتمع أكثر من 15 ألف صانع محتوى من أهم المؤثرين العرب والعالميين، شاركوا في “قمة المليار متابع” التي نظمها المكتب الإعلامي لحكومة دولة الإمارات.

وتهدف القمة، كما توحي التسمية، للوصول إلى أكثر من مليار شخص، وتقدم للفائز جائزة هي الأكبر في العالم، تشجيعا لصناع المحتوى الذين يترك محتواهم بصمة إيجابية، ويغير المجتمعات نحو الأفضل، ويؤثر في صناعة العقول، ويقرِّب الشعوب من بعضها البعض، ويرسخ قيم التراحم والتعاطف بين البشر.

“اصحَ يا نايم”.. ليس لتناول طعام السحور، بل لمعرفة ما يجري في العالم من تطورات.

خلال 6 عقود، لم يكن في سوريا إعلام، ولكن في نفس الفترة كان هناك إعلاميون مُورست عليهم أبشع أنواع الضغوط والتخويف. وهذا ما يفسر الاتجاه إلى الإنتاج الدرامي، حيث شكل مظهرا من مظاهر التعويض، خاصة بلجوء العاملين في هذا الحقل إلى المواضيع التاريخية.

إذا كان العالم اليوم ينتظر من الإدارة السورية حصر السلاح بيدها، فآخر ما سيقبل به هو أن تقوم ببسط يدها وسيطرتها على الإعلام.

بوجود صناع المحتوى والمدونين لم يعد هذا الخطاب الإعلامي الرسمي مجديا.. العالم اليوم يعيش في عصر مدونات ويصنعه مؤثرون شباب يعملون من مكاتب صغيرة في غرف نومهم، وليس من قلاع إعلامية تحيط بها ترسانة عسكرية لا يكترث أحد بما تبثه من سموم.

علي قاسم – كاتب سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة