عودة اللاجئين تحتاج إلى أموال طائلة وهذه الأموال ستأتي حصرا من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبقية المجتمع الدولي الغربي الذي جعل من تنفيذ القرار الدولي 2254 شرطا رئيسيا لتمويل العودة وإعادة الإعمار.
عودة اللاجئين ستعني تدمير مخطط التغيير الديموغرافي الذي ينفذه النظام
ترافق لجوء النظام السوري إلى القمع في مواجهة ثورة شعبيّة حقيقيّة مستمرة منذ ما يزيد على اثني عشر عاما مع عملية تغيير للواقع الديموغرافي في البلد. كان اندلاع الثورة فرصة لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” كي تدخل على خط إعادة رسم خريطة سوريا من منطلق واضح كلّ الوضوح.
يتمثل هذا المنطلق في تدجين الأكثرية السنّية التي سعت باستمرار للتخلص من النظام العلوي الذي استطاع حافظ الأسد بناءه ابتداء من العام 1970. ليست مجزرة حماة في شباط – فبراير من العام 1982 سوى تعبير عن استمرار تلك المحاولات في بلد وضع فيه العلويون يدهم على مفاصل الدولة ابتداء من 23 شباط – فبراير 1966، عندما نفذ الضباط الكبار في الطائفة (محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد) انقلابهم العسكري.
عمليّا، مهّد ذلك الانقلاب، الذي غطّاه شعار الانتماء إلى حزب البعث، احتكار الأسد الأب للسلطة بعد “الحركة التصحيحيّة” في 16 تشرين الثاني – نوفمبر 1970. انتظر الأسد الأب بضعة أشهر كي يصبح أول رئيس علوي لسوريا في شباط – فبراير من العام 1971. امتلك ما يكفي من الذكاء والدهاء والحذر كي يتأنّى في الإقدام على هذه الخطوة بعدما أحاط نفسه بشخصيات سنّية كي يوحي بأن النظام ليس علويا، بل لديه جذوره السنّية، خصوصا في الريف.
◙ أزمة سوريا تبدو أزمة عميقة ومركّبة في آن. تبدو أيضا أزمة من النوع الذي لا حلّ له من دون تغيير في موازين القوى في المنطقة تعيد إيران إلى حجمها الحقيقي
تغيّرت أمور كثيرة في سوريا منذ صار حافظ الأسد رئيسا استطاع توريث ابنه بشّار. ما لم يتغيّر هو الخوف الدائم لدى النظام من الأكثريّة السنّية. اللافت الآن، عند الكلام عن عودة اللاجئين إلى سوريا، أنّ ثمّة معركة أخرى يخوضها النظام للبقاء على قيد الحياة على حساب الأكثريّة السنّية. يعلم بشّار الأسد أن عودة اللاجئين السوريين من تركيا تعني عودة ثلاثة ملايين سني “معارض” إلى البلد. هؤلاء يشكلون خطرا على النظام، لا لشيء لأنّ تلك العودة مرتبطة، بطريقة أو بأخرى، بتنفيذ القرار الرقم 2254 الصادر عن مجلس الأمن في أواخر العام 2015. يتحدث القرار عن “مرحلة انتقاليّة” في سوريا تليها انتخابات “حرة” تشرف عليها الأمم المتحدة. كيف لنظام أقلّوي، مكروه من أكثرية شعبه، البقاء على قيد الحياة في مثل هذه الحال؟
لن تتوقف عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم عند تركيا فقط. في حال حصول مثل هذه العودة المرفوضة من النظام أساسا، ستقوم دول أخرى كلبنان والأردن باتباع الطريقة التركيّة نفسها والدفع بالعودة “القسرية” للسوريين إلى بلدهم. ستشكل مثل هذه العودة ضغطا هائلا على مؤسسات الدولة السورية المتداعية أصلا. من المرجح أن تتسبب بمشاكل اقتصادية واجتماعية وتتحول لاحقا وبشكل سريع إلى مشاكل أمنية تشكل خطرا حقيقيا على نظام الحكم القائم. سيحصل ذلك في وقت فقد النظام الكثير من مرتكزات وجوده، خصوصا أدواته القمعيّة المتمثلة بالأجهزة الأمنيّة المتعددة التي أقامها حافظ الأسد والتي كان كلّ جهاز منها يراقب، من ضمن مهماته، الجهاز الآخر.
ستعني عودة اللاجئين تدمير مخطط التغيير الديموغرافي الذي ينفذه النظام. استخدم النظام السوري النزوح والتهجير والإتيان بسكان من خارج سوريا وتجنيسهم بغية تحويل مراكز وجوده إلى بيئة مؤيدة حاضنة له. من يتذكّر كلام بشار الأسد في أحد خطاباته عن “البيئة السورية المتجانسة”؟ لم يخف يوما سعيه لإيجاد مثل هذه البيئة وعينه دائما على الأكثرية السنّية التي جعلت والده كارها للمدن الكبرى مثل دمشق وحمص وحماة وحلب… وحاقدا عليها.
إضافة إلى ذلك كلّه، تعني عودة اللاجئين السوريين المسلمين السنّة أيضا وضع حدّ للمشروع الإيراني الخاص بسوريا، وهو مشروع قائم على عملية التغيير الديموغرافي التي تعني فرض الوجود الإيراني في سوريا وتكريس النفوذ الذي تمارسه “الجمهوريّة الإسلاميّة”.
الأهم من ذلك كلّه، يعرف النظام في دمشق أن عودة اللاجئين تحتاج إلى أموال طائلة وهذه الأموال ستأتي حصرا من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبقية المجتمع الدولي الغربي الذي جعل من تنفيذ القرار الدولي 2254 شرطا رئيسيا لتمويل العودة وإعادة الإعمار. يعرف النظام السوري جيدا أنّ تنفيذ القرار 2254 لا يمكن أن ينتهي بغير تغيير النظام.
◙ أمور كثيرة تغيّرت في سوريا منذ صار حافظ الأسد رئيسا استطاع توريث ابنه بشّار. ما لم يتغيّر هو الخوف الدائم لدى النظام من الأكثريّة السنّية
في ظلّ هذه المعطيات، التي عمرها عشرات السنين، أي منذ انقلاب 1966 ثم تولي حافظ الأسد السلطة، تبدو أزمة سوريا أزمة عميقة ومركّبة في آن. تبدو أيضا أزمة من النوع الذي لا حلّ له من دون تغيير في موازين القوى في المنطقة تعيد إيران إلى حجمها الحقيقي. ما لا يمكن تجاهله هو الدور الذي لعبته “الجمهوريّة الإسلاميّة” في المحافظة على بشّار الأسد وإن ضمن حدود دمشق ومحيطها. لن تنفع عودة “الجمهوريّة العربيّة السوريّة” إلى مقعدها في جامعة الدول العربيّة في شيء ما دامت إيران تمسك بالنظام الذي يعرف أنّ لا وجود له من دونها.
في النهاية، كان قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” الذي اغتاله الأميركيون بعيد خروجه من مطار بغداد في الثالث من كانون الثاني – يناير 2020، وراء إقناع فلاديمير بوتين بإرسال قوات إلى سوريا في خريف العام 2015 لمنع انهيار النظام وسقوط الساحل السوري، حيث الكثافة السكانيّة العلويّة، في يد المعارضة. وقتذاك، كانت دمشق نفسها مهددة على الرغم من استخدام بشار السلاح الكيمياوي في حربه على شعبه صيف العام 2013.
جاء بوتين بطائراته إلى قاعدة حميميم قرب اللاذقية وأنقذ النظام. كيف استطاع قاسم سليماني إقناعه بالتدخل وما الثمن الذي دفعته “الجمهوريّة الإسلاميّة” كي يقبل الرئيس الروسي بإرسال قوات إلى سوريا؟ سيأتي من دون شك اليوم الذي ستتوافر فيه أجوبة عن هذين السؤالين.
يبقى في نهاية المطاف أنّ الحرب على الأكثرية السنّية في سوريا مستمرة. هذه الحرب التي بدأت في 1966 أخذت بعدا آخر في العام 2011 مع اندلاع الثورة السوريّة. إلى إشعار آخر، سيظل القضاء على الأكثريّة السنّية لبّ الأزمة السورية ومحورها.
خيرالله خيرالله – إعلامي لبناني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة