الشعب لن يلوم الصدر لأنه عبث بمصيره بطريقة مجانية بل وخانه بل سيلوم نفسه لأنه اعتقد في لحظة غباء أن هناك جزءا من النظام سينقلب على الأجزاء الأخرى مستقويا بالإرادة الشعبية.
أسد يتخلى عن عرينه
تعرضت الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة للتزوير العلني حين تخلى مقتدى الصدر وهو زعيم المنتصرين فيها عن أصواته ووهبها (هل باعها؟) إلى خصومه الخاسرين الذين كانوا قبل ذلك يتمنّون لو أن السيد أبقاهم مشاركين في حكومة توافقية، فإذا بالسلطة كلها تصير بين أيديهم في خطوة لم يكن لهم يد فيها.
حدث تهريجي لا يقع في أيّ مكان من العالم إلا بصيغة انقلاب عسكري. غير أن الصدر فعلها وأعاد خصمه الخاسر في الانتخابات إلى الحكم مرة أخرى. فعلها من غير أن يستشير الشعب الذي ذهب جزء منه إلى الانتخابات من أجل هدف واحد هو تغيير المعادلة السياسية التي أودت بالعراق إلى الحضيض وسلمته إلى إيران غنيمة حرب.
كم سنة من العذاب والشقاء والعيش المرير يحتاجها الشعب العراقي لكي يخلص إلى إرادته الحية المستقلة؟
بالتأكيد يشعر الشعب العراقي بعد عودة حزب الدعوة الإسلامية إلى الحكم بالندم، لا لأنه ساهم في تلك المهزلة من خلال ذهابه إلى الانتخابات فحسب، بل وأيضا لأنه اعتقد أن هناك فسحة من الأمل يمكنه من خلالها أن يستعيد قدرته على التحكم بمصير بلاده ديمقراطيا.
من حق الشعب العراقي أن يتظاهر محتجا وهو يرفع شعار “أين ذهبت أصواتنا؟”، ولكن ذلك سيكون متأخرا بعد أن أغلقت أبواب المزاد. سيكون عليه أن ينتظر الانتخابات القادمة ليقول من خلالها كلمته. لا يعني ذلك المشاركة في تلك الانتخابات، بل مقاطعتها كليا من أجل إسقاط النظام الذي يديرها ويتحكم بنتائجها بغض النظر عن الواجهة التي تفوز. فكل القوى السياسية التي ستتمكن من تقديم مرشحيها إلى تلك الانتخابات هي واجهات لذلك النظام الذي سيكون في إمكانه أن يعيد الأمور كلها إلى نقطة الصفر. تلك النقطة التي لم يغادرها العراق منذ عشرين سنة وليس هناك أمل في أن يغادرها.
لن يكون أمام الشعب العراقي سوى أن يرفض العملية السياسية برمّتها بعد الذي فعله مقتدى الصدر الذي هزم إرادة الشعب من غير أن يكون مجبرا على القيام بذلك. لا بد أن يبدأ الشعب العراقي مرحلة جديدة من تاريخه بعد عشرين سنة من فشله الذي لم يعد ممكنا إنكاره أو تحميل أيّ جهة أخرى مسؤوليته. فالمؤامرة لم تتم في الخفاء. كان كل شيء معلنا. ليست الشبهات سوى حقائق.
وإذا ما كانت الانتخابات الأخيرة نزيهة بشهادة مراقبين دوليين فليس في إمكان أولئك المراقبين الآن أن يتهموا أحدا بالتزوير بعد أن تخلى المنتصرون عن استحقاقهم الانتخابي وصار من حق المهزومين أن يضحكوا من الشعب الذي لن يذوق إلا مرارة الهزيمة بعد أن خُيّل إليه أنه سيذوق حلاوة الانتصار.
لن يلوم الشعب الصدر لأنه عبث بمصيره بطريقة مجانية، بل وخانه، بل سيلوم نفسه لأنه اعتقد في لحظة غباء أن هناك جزءا من النظام سينقلب على الأجزاء الأخرى مستقويا بالإرادة الشعبية. فالصدر يثق بالنظام ولا يثق بالشعب. لذلك كانت كل الحركات البهلوانية التي قام بها عبر السنة الماضية وهي عمر الأزمة المفتعلة هي تمهيد لما جرى أخيرا حيث تم إسدال الستار على الفضيحة بفوز الخاسرين في الانتخابات بالسلطة.
لم يخسر الصدر شيئا. فهو ابن النظام. الشعب هو الخاسر. خسر أوهاما في التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد. عاد الفاسدون إلى الحكم الذي لم يغادروه إلا صوريا ولوقت قصير من الزمن. لقد استهلك الصدر زمن الاحتجاجات ولم يعد اليوم متوقعا أن تستعيد الاحتجاجات وهجها بعد أن نجح الصدر وقوى أخرى في تشتيتها وكسر بوصلتها.
من حق الشعب العراقي أن يتظاهر محتجا وهو يرفع شعار “أين ذهبت أصواتنا؟”، ولكن ذلك سيكون متأخرا بعد أن أغلقت أبواب المزاد. سيكون عليه أن ينتظر الانتخابات القادمة ليقول من خلالها كلمته
لا تنفع دعوة المحتجين السابقين إلى أن يستأنفوا احتجاجاتهم في شيء. كل شيء قد تغيّر والنظام تعلم الدرس جيدا وهو قادر اليوم في ظل صمت عالمي على تمزيق الاحتجاجات قبل أن تقوم كما أن أجهزته الشعبية وفصائل الحشد الشعبي ستمارس القتل والخطف بطريقة سرية ولن يتم الحديث عن طرف ثالث. كل ذلك يعني أن الصدر فكك في وقت سابق الاحتجاجات على أمل الانتصار في الانتخابات الذي سيفتح الطريق أمام تحقيق المطالب التي رفعها المحتجون.
تلك كذبة أكتوبر الكبرى.
وهب السيد ما لا يملك إلى مَن لا يستحق وترك الشعب يصفق يدا بيد، حائرا في البحث عن سبيل للخروج من الأزمة بعد أن أنهى الحزبيون أزمتهم بالانتصار على إرادة الشعب الذي ارتكب خطأ فادحا حين وضع ثقته في الصدر الذي هو ابن النظام وصناعته.
كم سنة من العذاب والشقاء والعيش المرير يحتاجها الشعب العراقي لكي يخلص إلى إرادته الحية المستقلة؟
فاروق يوسف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة