بمرور الوقت، ظن الجميع أن العلاقة بين إيران وسوريا، وبين سوريا وحزب الله، هي علاقة ودّ وحب من النظرة الأولى، إلا أن الحقيقة غير ذلك، فالصداقة تحجب عداوة قديمة، وهي صداقة، كما كل الصداقات السياسية تحكمها المصالح.
في السياسة الأصدقاء يتبدلون، وكذلك الأعداء، واليوم هناك بوادر لإنهاء زواج وصفه كثيرون بالكاثوليكي بين دمشق وطهران، وبالتالي التمهيد لقطع العلاقة مع حزب الله.
هل دمشق مستعدة، بعد أن حققت نصرا على الجماعات الإرهابية، لأن تقع تحت سطوة ميليشيات إيرانية تناوش إسرائيل لتحقق مكاسب سياسية لملالي إيران، الذين أساءهم استفراد روسيا بالقرار السياسي السوري، في محاولة استنساخ للسيناريو الذي لعبه حزب الله في لبنان لصالح المدّ الإيراني.
التحذيرات التي أطلقها المبعوث الأميركي الخاص إلى طهران، براين هوك، منذ يومين تأكيد على أن الدور الإيراني في المنطقة أصبح مكشوفا للجميع، حيث نبه إلى مخاطر التمدد الإيراني وسعي إيران إلى استنساخ التجربة اللبنانية في اليمن، وشدّد على وجوب منعها من ترسيخ نفوذها هناك، بالتوازي مع تقييد توسعها في لبنان وسوريا والعراق.
من المفيد أن نسترجع بعضا من التاريخ، في عام 1978، عندما أبعد آية الله الخميني عن العراق، وكان قد أمضى فيها 13 عاما مقيما في مدينة النجف، عرض الرئيس السوري حافظ الأسد استضافته في دمشق، لكن الإمام رفض تلبية الضيافة السورية، واختار الذهاب إلى فرنسا، حيث أقام لمدة 112 يوما في مدينة تشتهر بصناعة الكونياك، هي نوفل لوشاتو.
لم يكن لدى الخميني مانعا في أن يسمع أجراس الكنائس بدلا من صوت الأذان. تركيزه كان في أمر آخر يجري داخل إيران، التي كانت تشهد ثورة أطاحت بنظام الشاه، في انتظار اللحظة المناسبة التي يعود فيها إلى طهران معلنا ولاية الفقيه، قاطفا ثمار ثورة لم يشارك فيها. ويتساءل البعض لماذا فضل الخميني الإقامة في نوفل لوشاتو، ولم يختر الحياة إلى جوار السيدة زينب في دمشق.
لا أحد يستطيع أن يقدم جوابا قاطعا على السؤال. هناك عدة إجابات، بعضها يعزو ذلك إلى خشية الخميني على حياته من عملاء السافاك (الشرطة السرية في عهد الشاه). وإجابات تعزو ذلك إلى الصورة السلبية التي لحقت بالنظام السوري إثر تدخله في لبنان، عام 1976، لمصلحة المسيحيين ضد المسلمين والفلسطينيين. ولا تستبعد الإجابات أن يكون للمواجهات التي حصلت بين الإخوان المسلمين والحكومة السورية دور في ذلك. ومهما تكن الإجابة، ليس صحيحا أن دوافع مذهبية هي التي حكمت مسار العلاقة بين النظامين. وتبقى الحقيقة، أن ما يفرق بين نظام الخميني الثيوقراطي، والنظام العلماني السوري، أكبر مما يجمع بينهما.
هل يمكن أن ننسى موقف حزب الله المؤيد والداعم لإمارة طرابلس الإسلامية، عندما قام بخطف رهائن سوفييت عام 1985، وهدد بنسف السفارة السوفييتية، لإحراج سوريا، في حادثة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البعثات الدبلوماسية السوفييتية إلى الشرق الأوسط؟
حينها تبنت عملية الاختطاف منظمةٌ غير معروفة، أطلقت على نفسها اسم “قوات خالد بن الوليد”. وأصدر الخاطفون بيانا جاء فيه أن الروس، أعداء الإسلام يتحملون المسؤولية عن فظائع حليفتهم سوريا، التي شنت الحرب على أشقائنا المسلمين في محيط مدينة طرابلس، في شمال لبنان. وعلى موسكو أن تضغط على دمشق لوقف العملية العسكرية السورية.
وبعد صمت طويل كشفت موسكو عام 2016، أن عماد مغنيّة، المسؤول عمّا كان يسمى “الجهاد الإسلامي” في حزب الله، هو من كان يقف وراء خطف الدبلوماسيين السوفييت في بيروت، وليس جماعة سنيّة جهادية، كما أشيع حينها، وأن محمد حسين فضل الله، المرشد الروحي السابق لحزب الله، كان هو الآخر قد تورّط في عملية الاختطاف.
حدثت أكثر من مواجهة بين حزب الله وبين سوريا وحركة أمل، قام الحزب على إثرها بالسيطرة على مناطق تابعة لحركة أمل، بدءا بإقليم التفاح وصولا إلى بعلبك. وشهدت تلك الفترة حدوث تصادم دموي بين الحزب والقوات السورية، بدأ باشتباكات في البقاع، ليبلغ ذروته في ثكنة فتح الله في محلة البسطة، فبراير 1987، عندما أقدم السوريون على إعدام أكثر من عشرين مقاتلا لحزب الله. انتقل بعدها مقر الحزب إلى مواقع سرية في الضاحية الجنوبية، وحمّل حزب الله، في بيان، الجانب السوري المسؤولية بشكل واضح.
إثر ذلك تخوف حزب الله من حصار سوري على الضاحية، وهذا ما دفع إيران إلى التدخل، معتبرة سلامة الحزب شرطا لعلاقاتها مع دمشق، ورأى البعض أن هذا الشرط هو ما حدد لاحقا تطور الحزب ليصل إلى ما هو عليه بقيادة حسن نصرالله.
وكان حزب الله قد تأسس في أوائل الثمانينات، كجزء من محاولة إيرانية لتجميع قوى شيعية لبنانية مسلحة تحت سقف واحد، وتم تدريب قواته وتنظيمها من قبل وحدة من عناصر الحرس الثوري، دخلت لبنان قادمة من إيران بإذن من الحكومة السورية.
في الوقت الذي ظن فيه ملالي إيران أنهم أمسكوا خيوط اللعبة وأن الأمر استتب لهم، وأن مشروعهم أصبح قابلا للتحقيق جاءتهم الصدمة من أكثر من طرف.
وهذا يفسر حرص الولايات المتحدة الأخير على منع إيران من امتلاك السلاح النووي، واختار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مواجهة الموقف بالضغوط الاقتصادية، فارضا لحصار متصاعد عليها، ولم يستبعد الخيار العسكري إن اقتضى الأمر.
بوادر التمرد على السيطرة الإيرانية في العراق تلوح اليوم، حيث تحولت مناسبات دينية، مثل عاشوراء ومواكب ذكرى الإمام الحسين، إلى منبر للاحتجاج ضد الفساد الحكومي والديني الذي تباركه إيران. وبدت الصحوة الخليجية في التعامل مع مشكلة اليمن، من حرص دول التحالف العربي؛ الإمارات والسعودية ومصر والبحرين، على المضي إلى أبعد مسافة لمنع التمدد الإيراني في المنطقة.
وفي لبنان، يعلم حزب الله اليوم أن استمرار سيطرته على الحكومة سينتهي بلبنان بلدا مفلسا، يمتنع الجميع عن تقديم المساعدة له، وبالتالي يعجز الحزب عن تمويل ميليشياته التي ستنقلب على بعضها، ولن يمنعها شيء من الانقضاض على الرؤوس الكبيرة.
وقضى الموقف الروسي الداعم للنظام في سوريا، ونجاح الجيش السوري في القضاء على المجموعات الإرهابية، على أحلام طهران، ولا يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بموقع من لديه الاستعداد للسماح لدولة أخرى أن تقطف ثمار جهوده.
ساهمت دمشق، سواء عن حسن نية أو سوء نية، في تسلل ملالي إيران إلى لبنان، وقدمت لهم دعاية مجانية مهدت لهم السيطرة عليه، عن طريق وكلائهم ممثلين بحزب الله، الذين استغلوا مشاعر الشارع العربي المتعاطف مع الفلسطينيين والمعادي لإسرائيل.
البحث عن حلفاء لمواجهة أعداء وهميين، أدّى بدمشق إلى ارتكاب أخطاء فادحة، ما زال لبنان يعاني منها، وما زالت دمشق تدفع ثمنا لها.
لم تكن طهران يوما صديقا حقيقيا لدمشق، بل لا يمكن أن تكون هذا الصديق أو الحليف، وهي الآن ورقة محروقة، يجب التخلي عنها. وهذا في الغالب سيعمل لمصلحة الشعب الإيراني، الذي دفع غاليا ثمن مغامرة رجال الدين الإيرانيين، فقد يساهم في أن يعرف الملالي حجمهم الطبيعي، ويتوقفون عن إثارة الفتن.
إيران وسوريا عدوتان ألّف بينهما عدو وهمي مشترك. والسوريون ليسوا مدينين للإيرانيين بشيء، وإن وفرت لهم طهران الحماية لبعض الوقت، فهي حماية باهظة الثمن حان وقت طرحها جانبا.
علي قاسم – كاتب سوري – صحيفة العرب