الأمثلة على الواقع المأساوي الذي يعيشه عراق ما بعد 2003 أكثر من أن تعد وتحصى حيث الفوضى تضرب أطنابها في مختلف مجالات الحياة وحيث هنالك من يصر على دفع البلد إلى الهاوية.
طقوس عادت بالعراق دهورا إلى الوراء
هل بات التصحر والتحجر والهمجية والفساد سمة العراق الجديد؟ وهل أصيب العراق بالعقم فلم يعد ينجب شخصيات وطنية أو مبدعة كتلك التي كانت ملء الدنيا والأسماع من قبل؟ ومن يخلّص العراق من الهيمنة الإيرانية المتفاقمة على مقدراته؟ وهل يريد الأميركيون حقاً عراقاً ديمقراطياً مزدهراً يكون مثالاً للآخرين في المنطقة، أم أنهم يريدونه رأس حربة أو “فايروسا” لتفجير المنطقة برمتها وتحويلها إلى شظايا طائفية وعرقية انسجاماً مع المخطط الصهيوني ودعوات الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد؟
إن نظرة واحدة لأوضاع “العراق الجديد”، الذي أنجبته الدبابة الأميركية سنة 2003، كفيلة بمعرفة مدى الخراب الشامل، لاسيما على الصعد الفكرية والاجتماعية والقيمية والإنتاجية، الذي حل ببلاد الرافدين كالطاعون بعد 2003، فكانت النتيجة بحراً من الدماء والحقد والكراهية والخراب والطائفية والفساد وعدم تقبّل الآخر وحرق الأخضر واليابس!
الأمثلة على الواقع المأساوي الذي يعيشه عراق ما بعد 2003 أكثر من أن تعد وتحصى، حيث الفوضى تضرب أطنابها في مختلف مجالات الحياة فيه، وحيث هنالك من يصر على دفع البلد إلى الهاوية من خلال تبني أجندات خارجية على حساب المصلحة الوطنية، وتسيّد طبقة من اللصوص والعملاء والمزورين وأمراء الحرب على مقدراته، وتغييب القوى الفاعلة الحقيقية، بالقتل أو الخطف أو التهجير، لتعطيل قدرات البلد الخلاقة، وإشاعة الخرافات والجهل في المجتمع، بهدف إصابته بالسكتة الدماغية، لتمرير أهداف خبيثة تسهم في نسف وحدته الوطنية.
◙ التوتر الحاد الحالي بين الفصائل المسلحة وقوات التحالف عامة والأميركية منها خاصة، والمطالبة بانسحابها من البلد، يشكل الفصل قبل الأخير من بداية نهاية العراق بوضعه الحالي
ويكفي هنا أن نستعرض قول أحد المسؤولين عن مقام ديني في كربلاء المقدسة، ذات جلسة خاصة، عن سبب عدم تصدي علماء الدين للظواهر والممارسات المتخلفة والمسيئة التي تتكرر بنحو مقرف خلال المناسبات الدينية، بما مفاده “نحن نعتاش على الجهلاء والمتخلفين”، وأيضا الرد المستفز لنائب من محافظة المثنى، على شكوى مواطن من عدم وجود مدرسين لمادتي الرياضيات والفيزياء في المدارس، بما مفاده “ما حاجتكم للمدرسين ما دام عندكم مقام الإمام الخضر”!
لذلك لم يكن مستغرباً ما شهدته العاصمة بغداد، ومدن عراقية أخرى، خلال مراسم إحياء ذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم، مطلع فبراير 2024 الحالي، من ممارسات وطقوس غريبة وهمجية ومتخلفة، أعادت البلد دهوراً إلى الوراء، فضلاً عن أخرى تجاهر بالإساءة للصحابة الأجلاء وآل بيت النبوة الأطهار، جهاراً نهاراً دون خجل أو حياء، وبالطبع دون حسيب أو رقيب.
إن المتمعن في أحوال العراق اليوم، يلاحظ وجود تيار قوي بل طاغ لتجهيل المجتمع وإشاعة الخرافات، وخلق رموز دينية ومجتمعية لا قيمة فعلية لغالبيتها العظمى، بل إن للكثير منها ماضياً إجرامياً ممهوراً بأحكام قضائية!
وهنا لا يمكن تبرئة الولايات المتحدة مما آلت إليه الأمور في العراق، كونها هي المسؤولة عن تسليم دفة الحكم للطبقة السياسية الحالية التي تحتكر السلطة والقوة والسلاح والمال، وإقامة نموذج يكرس الطائفية، ونسف أركان الدولة، وإطلاق العنان لنزعات الحقد والانتقام والتهميش، مستندة في ذلك على خبرة الإنجليز وسياسة “فرّق تسد” التي طبقوها من قبل بمنتهى الخبث في مستعمراتهم.
وإذا ما كانت الولايات المتحدة قد بنت غزوها للعراق على “فرية” أسلحة الدمار الشامل التي دحضتها الأحداث والوقائع اللاحقة، فإن شعاراتهم البراقة بشأن “المساعدة على إقامة عراق ديمقراطي مزدهر يكون مثالاً للآخرين في المنطقة”، أو كما زعم الحاكم المدني بول بريمر، في لقاء تلفزيوني، من أن المشروع الأميركي في العراق “تجاوز المصاعب وأدى إلى إقامة عراق ديمقراطي مستقر”.. سرعان ما تبخرت ليتحول البلد إلى مستنقع للعنف والحقد والكراهية والفساد، ولتتضح حقيقة الرغبة الأميركية بأن يكون العراق بمثابة “الفايروس” الذي ينشر الطائفية في المنطقة تمهيدها لتفتيتها وتقسيمها عرقياً وطائفياً لصالح المشروع الصهيوني.
ولا أدل على ذلك من مراجعة طروحات دهاقنة الفكر الأميركي الصهيوني، من أمثال برنارد لويس، صاحب نظرية “الفوضى الخلاقة” في الشرق الأوسط والوطن العربي، بهدف إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وقومية وطائفية، بدءاً من العراق حيث ينبغي تقسيمه إلى ثلاث دويلات شيعية وسنية وكردية.
◙ العراق يقف اليوم على مفترق طرق حاسم يمكن أن يحدد مستقبله ومصيره، ما يضع قواه الحية أمام مسؤولية تاريخية، بالرغم من أن غالبية تلك القوى إما مغيبة أو منفية وهنا الطامة الكبرى
أو رأي ريتشارد هولبرك، سفير الولايات المتحدة الأسبق لدى الأمم المتحدة (1999 – 2001)، الذي تخوف من إقامة حكومة ديمقراطية في العراق كون ذلك “سيخلق صراعات ونزاعات طائفية ربما تكون أسوا مما كانت عليه في البوسنة وذلك لأن الانتماءات الطائفية في حالة العراق أشد تعقيداً”.
أو قول وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس في حديث صحفي مع جريدة “واشنطن بوست” سنة 2005، إن نظرية الفوضى الخلاقة “أصبحت أولوية للسياسة الخارجية الأميركية”، وإن واشنطن تنوي “نشر الديمقراطية في العالم العربي والبدء بتشكيل ما يعرف بالشرق الأوسط الجديد عبر نشر الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط”.
وفوق هذا وذاك فإن الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن هو الذي طرح، سنة 2007 مشروع تقسيم العراق إلى ثلاث دول (كانتونات) على أساس قومي وطائفي، كحل لمشكلة الاحتقان السياسي بين مكوناته، عندما كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، حيث تم التصويت عليه من قبل المجلس، علماً أن طرح مشروعه جاء متزامناً مع ذروة التصعيد الطائفي وبروز تنظيم “القاعدة” الإرهابي في العراق، الذي تسبب بسقوط الآلاف من الضحايا الأبرياء من مختلف مكونات النسيج المجتمعي العراقي.
وإذا ما كان بايدن لم يعاود طرح مشروعه التقسيمي علناً، سواء عندما أصبح نائباً للرئيس، أم عندما تربع على سدة الحكم في البيت الأبيض، فإن ذلك لا يعني مطلقاً التخلي عن المشروع، إنما طبخه على نار هادئة، والعمل على تهيئة الظروف المناسبة له على الأرض، لاسيما أن المشروع حظي بترحيب مجلس الشيوخ ليكون قراراً “غير ملزم”، وأن دوائر وشخصيات أميركية وصهيونية كثيرة تروّج له منذ عقود طويلة.
وكان نتيجة ذلك تفاقم معدلات العنف، والفرقة بين العراقيين، وزعزعة أركان الدولة، وترسيخ الطائفية في المجتمع، واستفحال الفساد، والفشل في مختلف المجالات، وظهور الميليشيات وتغوّلها، ومن ثم تهديدها للعديد من دول الجوار، فضلاً عن إقليم كردستان، وقوات التحالف الدولي الموجودة في العراق بطلب من الحكومة العراقية، بنحو يتناغم مع التوجهات العدائية والتخريبية الإيرانية، وإلى الحد الذي باتت فيه تصادر القرار العراقي.
إن التوتر الحاد الحالي بين الفصائل المسلحة وقوات التحالف عامة والأميركية منها خاصة، والمطالبة بانسحابها من البلد، يشكل الفصل قبل الأخير من بداية نهاية العراق بوضعه الحالي، وينذر بإمكانية عودة نشاط التنظيمات الإرهابية التي لم يتم القضاء عليها نهائياً بعد، وربما الحرب الأهلية، نتيجة شراهة القوى الشيعية المتنفذة والمسيطرة على دفة الأمور في البلد حالياً، التي تدين بالولاء المطلق لإيران وتأتمر بأوامرها، وأطماعها التي لا نهاية لها، وإصرارها على تهميش، بل وسحق، الآخرين من الكرد والسنة بل وحتى الشيعة الرافضين لوجودها ونهجها.
بالمقابل فإن الولايات المتحدة (ومعها بريطانيا) لا يمكن أن تفرط بالعراق، وهو ما يقودنا إلى السيناريوهات الآتية:
◙ المتمعن في أحوال العراق اليوم يلاحظ وجود تيار طاغ لتجهيل المجتمع وإشاعة الخرافات وخلق رموز دينية ومجتمعية لا قيمة فعلية لغالبيتها العظمى بل إن للكثير منها ماضيا إجراميا ممهورا بأحكام قضائية
1 – أن تغادر القوات الأميركية والتحالف الدولي العراق، وهو ما يعني عملياً تركه تحت رحمة الإيرانيين وسطوتهم، ليتحول إلى ولاية إيرانية، ما يفتح أبواب الجحيم عليه، ويضعه تحت طائلة عقوبات دولية قاسية، ومطالبات بسداد ديون طائلة، والأدهى والأمر، تزايد مخاطر الحرب الأهلية، وتفجر الصراع بين المركز وإقليم كردستان، وسعي مناطق منه -خصوصاً الغربية – للانفصال، فضلاً عن إمكانية توسع التدخل العسكري التركي الذي قد يطال مناطق واسعة من محافظتي نينوى وكركوك، ما قد يدفع بالمجتمع الدولي، لاسيما الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوربي، إلى التدخل ومعاودة فرض مناطق آمنة مجدداً للكرد والسنة وربما المسيحيين هذه المرة، وعلى غرار ما حدث بعد انتهاء حرب الخليج الثانية سنة 1991، عندما فرضت الولايات المتحدة، وحليفتها بريطانيا، حظراً جوياً داخل العراق، بما عرف بمناطق الحظر الجوي، عند خطي عرض 36 شمالاً و33 جنوباً، بحجة حماية الكرد والشيعة، وبذلك يتحقق مشروع تقسيم العراق.
2 – بقاء القوات الأميركية والدولية، بصورة أو أخرى، والسعي لحل الفصائل والميليشيات المسلحة، بعد تصفية صقورها، وإجراء إصلاحات شكلية، ما يعني بقاء العراق يراوح ضمن خانة الدول الفاشلة والأكثر فساداً بالعالم، وتركه يتحلل تدريجياً مع تغذية النزعات الانفصالية والمناطقية، وصولاً إلى تفجّر الأوضاع فيه أكثر ممّا هي متفجرة حالياً، ليكون التقسيم العرقي والطائفي هو الحل عندها.
3 – إحداث تغير جوهري في النظام السياسي العراقي الحالي، وعزل الطبقة السياسية الحالية ومحاسبتها على ما ارتكبته من جرائم وسرقات، وكلها موثقة ومعروفة للأميركيين قبل غيرهم، ما يعني بداية تعافي البلد والعودة إلى ممارسة دوره الطليعي في المنطقة، لما يتمتع به من قدرات وثروات وإمكانيات وموقع إستراتيجي، وهو الاحتمال الأضعف، أو ربما غير المرغوب فيه لاسيما من قبل الدوائر الصهيونية.
وفي كل الأحوال فإن العراق يقف اليوم على مفترق طرق حاسم يمكن أن يحدد مستقبله ومصيره، ما يضع قواه الحية أمام مسؤولية تاريخية، بالرغم من أن غالبية تلك القوى إما مغيبة أو منفية وهنا الطامة الكبرى.
باسل الخطيب – صحفي عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة