دخلت الولايات المتحدة معترك الأحداث في سوريا على رأس تحالف دولي للقضاء على المجموعات الإرهابية وعلى رأسها داعش والقاعدة بنسختها السورية، وكذلك الفصائل المتطرفة من المقاتلين الغرباء. وانضوى هؤلاء تحت لواء الجماعات التكفيرية التي تكاثرت كالفطور السامة في البلاد مدّعية حماية الإسلام وإقامة دولته على أرض الشام، والدين والشام منهم براء.
إلا أنه، وعلى الرغم أن الهدف المتقدّم لواشنطن في سوريا كان حرب داعش ولاسيما شرق الفرات حيث تحالفت على الأرض مع مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية في هذه المهمّة، فقد كان للإدارة الأميركية هدفين آخرين بحيث يشكّل الأهداف الثلاثة مجتمعة ركيزة الأعمال الميدانية والجهود السياسية للدبلوماسية الأميركية في سوريا. الهدفان الأولان هما تحقيق الانتقال السياسي ضمن مظلة القرارات الأممية 2254 و 2118 وبيان جنيف 1، والهدف الثالث هو طرد القوات الإيرانية ووكلائها من الميليشيات التي ترعاها وتسمّنها طهران من الأراضي السورية كافة.
في شقّ مكافحة الإرهاب كان للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها اليد الطولى والفاعلة في دحر المجموعات الظلامية من آخر معقل لها في بلدة الباغوز شرقي الفرات. وحين احتاجت واشنطن إلى ضرب القاعدة في مناطق أخرى قامت في صباح يوم السبت 30 أغسطس 2019 بقصف اجتماع لإرهابيي القاعدة في إدلب وقتلت أربعين قياديا منهم.
المثير في الأمر أن الهدف الأميركي هذه المرة كان غرب الفرات في المناطق التي أصبحت قوات مشاة النظام السوري والطيران الروسي على حدودها البرية والجوية، بل وقضمت بلدة خان شيخون الاسترتيجية مؤخّرا منها. إلا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي كان ينوي سحب قواته ومستشاريه من سوريا إثر القضاء شبه الكامل على داعش، كان قد عدل عن قراره وقام بالتمديد لهذه القوات من أجل حماية المنطقة من إمكانية عودة تنظيم داعش بواسطة خلاياه النائمة، وأيضا للهدف الأكثر إلحاحا وهو طرد الميليشيا الإيرانية من قواعدها، والدفع بعملية الانتقال السياسي بغطاء أممي؛ في حين تعهدت الولايات المتحدة بألا تتم المباشرة بإعادة إعمار سوريا حتى تحقيق الهدفين الأخيرين.
أما في موضوع الانتقال السياسي، فالولايات المتحدة كانت قد حدّدت خياراتها في ضرورة تنفيذ القرارات الأممية كاملة، وكذلك ربطت الشروع بإعادة الإعمار بخروج آخر مسلّح من الميليشيات الإيرانية الطائفية، وهو شرط أميركي لا رجعة فيه.
وقد صرّح مستشار الأمن القومي المستقيل، جون بولتون، وهو من أعتى الصقور المناهضين لسياسات إيران ذات الأطماع التوسعية على حساب استقرار منطقة الشرق الأوسط وأمن دولها، قائلا “لن نخرج من سوريا قبل خروج آخر مقاتل إيراني من هناك”.
وفي مصادفة تاريخية، وجدت الولايات المتحدة نفسها تجلس في مثلّث قد يكون الأرض الأكثر إستراتيجية التي تواجدت فيها بمنطقة الشرق الأوسط في العقد الأخير وهي شرق الفرات السوري. فمن خلال وجودها الميداني هناك، إلى جانب موقع التنف على الحدود السورية الأردنية، استطاعت واشنطن أن تدحر أعتى تنظيم إرهابي في المنطقة والعالم كان قد تشكّل بداية في العراق ليمتد إلى سوريا مستغلا حالة الفراغ والفوضى التي أنتجتها سنوات من الحرب بين النظام السوري والمعارضة السورية بجناحها العسكري.
هذا ناهيك أن لواشنطن في شرق الفرات شركاء أكراد قاتلوا معها لتطهير الأرض من جحيم داعش، أما على يمينها فحليف عتيد هو إقليم كردستان العراق. وبينما تطمع إيران بالسيطرة على الطريق الواصل بين إيران وسواحل المتوسط في لبنان مرورا بالعراق وسوريا، ها هي الولايات المتحدة تقف لها بالمرصاد قاطعة عليها الطريق البري الواصل بين العاصمتين الإيرانية واللبنانية، لتشكّل ضمانة راسخة بعدم تنفيذ ذاك الهاجس الإيراني القديم والمتجدّد لربط طهران بشاطئ المتوسط.
هناك ثلاث قوى أخرى لاعبة على الساحة السورية لها طموح في شرق الفرات أيضا وهي تركيا وروسيا والنظام السوري من خلفهما.
تركيا التي تجد في حلفاء الولايات المتحدة من قوات سوريا الديمقراطية الكردية تهديدا وجوديا على حدودها الجنوبية، فقد تبدّدت خططها باجتياح المنطقة من خلال تحجيمها إلى مجرد “ممر للسلام” على الحدود التركية السورية يمتدّ بين مدينتي رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/ كوباني بتعاون أميركي ومشاركة في الدوريات التركية، ما أدى إلى تهدئة مخاوف أنقرة من هاجس الجوار الكردي المسلّح.
أما روسيا، ومن خلفها النظام في دمشق، فهي تريد مغادرة سريعة للقوات الأميركية وقواعدها العسكرية التي استقرت في غير منطقة على امتداد مثلث شرق الفرات. فموسكو التي تتنافس مع واشنطن في المنطقة، تجد نفسها المعنية الوحيدة في بسط نفوذها على سوريا إثر تدخلها العسكري والسياسي والدبلوماسي لإنعاش النظام السوري الذي كان آيلا للسقوط، ولتتمكن من جني فوائد الاستثمار السخي، ماليا ولوجستيا.
وأخيرا، للولايات المتحدة حلفاء عرب أقوياء، وقادرين، في العاصمتين الرياض وأبوظبي، سيضعون حجر الزاوية في ورشة إعادة الإعمار التي تكاد تكون الأعظم في العالم بعد الحرب العالمية الثانية موازاة بحجم التدمير،وذلك حال الانتقال إلى دولة سوريا الجديدة التي يسوسها القانون وتحكمها النظم السياسية الديمقراطية في ظل المدنية والتعددية والعدالة الشعبية.
الولايات المتحدة تريد العودة بالسرعة الممكنة إلى طاولة جنيف الأممية بعيدا عن الأحلاف والمؤتمرات التي أسست لها روسيا في محاولة للنأي بالملف السوري عن مكانه المفترض، وعلى رأس تلك المؤتمرات كان مؤتمر آستانا الذي بلغ نسخته الـ 1 مؤخرا، والذي لم تحضر الولايات المتحدة أية جولة منه إلا بصفة مراقب حين تدعو الحاجة.
وليس صحيحا البتة ما يثيره معسكر روسيا وإيران أن واشنطن تريد تقسيم سوريا، ولو كانت تريد السير في مسار التقسيم في المنطقة لكانت بدأت بالعراق – على سبيل المثال – حيث كان موقفها السلبي من الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق الدور الأكثر تأثيرا في إحالة انفصال الإقليم إلى مجرّد شوفينيات غير قابلة للتحقّق.
فصل المقال يكمن فيما سمعته من السفير روبرت فورد في 15يوليو 2012 حين التقيته ووفد سوري مصغّر في مكتبه بوزارة الخارجية الأميركية وكان في حينها المبعوث الأميركي للملف السوري، قال لنا في نهاية الاجتماع بتشديد على كلماته “أميركا لا تريد تقسيم سوريا ولن تسمح بذلك”، وأردف ”إلا أن الأمر سيطول على السوريين للأسف الشديد”!
مرح البقاعي – كاتبة سورية – صحيفة العرب
المقالة تعبر عن رأي الكاتبة والصحيفة