قد يكون من المرارة القول إن بوتين وإثر خسارته لحليفين قويين في العراق وليبيا يجد أنه لا بدّ مما ليس منه بدّ لدعم بقاء بشار الأسد في السلطة إلى أن يتوفر البديل القوي.
“إنها قطعة من قلبي ستظل باقية هنا في الأرض الجميلة الممتدة ما بين النهرين، بأوديتها الخصبة وجبالها المهيبة وشعبها الرائع”.. هكذا وصف الدبلوماسي الأميركي، بول بريمر، العراق حين مغادرته له بعد فترة وجيزة لا تتجاوز 13 شهراً من تاريخ تعيينه رئيساً للإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق في تاريخ 6 مايو 2003، وبقرار من الرئيس جورج بوش.
غير أن هذه الشهور القليلة في عمر الشعوب، كانت كافية لبريمر ليرتكب أخطاء كارثية في البلد الجريح الخارج من قبضة نظام استبدادي عاث فساداً وقهراً وانتهاكاً بالحقوق لعقود طويلة.
وفي جلسة مساءلة عقدها مجلس النواب الأميركي في العام 2007 اعترف بريمر بالعديد من الأخطاء التي ارتكبها وقال في حينها إنه “لو عاد به الزمن إلى الوراء كان سيتعامل مع عدة قضايا رئيسية في العراق بصورة مغايرة”.
وعلى العكس من الأجواء التي ابتكرتها الإدارة الأميركية خلال دخولها العراق، والتي حملت الوعود بمستقبل زاهر لأفراد الجيش العراقي، في حال لم يبدوا مقاومة للقوات الأميركية، ورغبة واشنطن في وضع خطة أمنية وعسكرية مشتركة بين الجيشين، والتعاون مع ضباط وخبراء عسكريين عراقيين من أجل إعادة الأمن والاستقرار للعراق، استعداداً للمرحلة السياسية ما بعد نظام صدّام حسين والشروع بإعادة الإعمار؛ فقد جاء بريمر ليقلب هذا المشهد رأساً على عقب.
قام بريمر حال تسلّمه منصبه في العراق بحلّ وحدات وفرق الجيش العراقي، ترافقاً مع حل وزارتي الإعلام والدفاع معاً، وترك جنود الجيش وضباطه نهباً للتجاذبات الإقليمية والدولية وفريسة سائغة للقوى المتطرفة التي وجدت في بعض من أفراد الجيش المنحلّ وقياداته هدفاً جاهزاً لتشكيل مجموعات عسكرية مقاتلة سرعان ما انحرفت بعد فترة قصيرة باتجاه العنف ثم الإرهاب المنظم بحجة مواجهة القوات الأميركية الغازية وطردها من البلاد.
لكن الأمر تطوّر فيما بعد باتجاهات وأهداف أبعد من إخراج الجيش الأميركي بكثير، الذي ما أن خرج حتى بدأ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو ما يُعرف اختصاراً باسم داعش، يملأ الفراغ الأمني والعسكري الذي خلّفه الأميركيون، بعد أن أمرهم الرئيس الأسبق باراك أوباما بالانسحاب بقرار رئاسي لم يكن أقل سوءاً وخطراً من ارتكابات بريمر حين حلّ الجيش العراقي.
ما يحدث اليوم في سوريا يتقاطع بشكل كبير مع أحداث العراق في ذلك الوقت. فمنذ أن قام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بإصدار قرار بتعيين سفيره في دمشق، ألكسندر يفيموف، ممثلاً خاصاً له لتطوير العلاقات مع سوريا، ثارت موجة من التأويلات والجدل في الشارع السوري، وسارع البعض إلى تسمية الأخير “بول بريمر سوريا”! فهل هو حقاً كذلك؟
وهل دخول روسيا إلى سوريا يشابه الدخول الأميركي إلى العراق في الحيثيات والأهداف البعيدة المدى؟ وهل تعتبر هذه المرتبة الدبلوماسية الجديدة ليفيموف مجرد ترفيع وظيفي روتيني في الخارجية الروسية، أم أن الوجود العسكري المتقدّم والنفوذ الروسي في سوريا يضفيان على تعيينه في هذا المنصب طابعاً خاصاً ويحمّلانه مهمة فوق العادة؟
مهما اختلفت القراءات لفحوى المهمة الجديدة لنائب بوتين الخاص إلى سوريا، فإنه من البديهي في العرف الوظيفي أن يكون يفيموف قادراً ومخوّلاً للتواصل بشكل مباشر مع القصر الجمهوري بدمشق من طرف، ومع مكتب بوتين في الكرملين من طرف آخر، دون الحاجة للمرور بأقنية وزارة الخارجية في البلدين؛ الأمر الذي يضفي على مهمته طابع العمل على المستوى الاستراتيجي في العلاقة بين العاصمتين دمشق وموسكو، بل والتواصل العاجل والمباشر في حال الطوارئ.
أما اختيار موسكو لهذا التوقيت بالذات لإعلان هذا المنصب الروسي السامي في دمشق فقد يكون مرتبطاً باقتراب تطبيق قانون قيصر الأميركي على النظام السوري، ويحمل وجهان: إما حماية أركان النظام من بنود هذا القانون المسلّطة على رقابهم، وإما حماية أركان الدولة من الانهيار حين المباشرة بتنفيذ القانون. وفي كلا الحالتين، ونظراً لحالة النفوذ القصوى التي تتمتع بها روسيا على مفاصل النظام، فهي ستكون في موقع يسمح لها بالتدخّل السريع – السياسي طبعاً- حين حدوث أي طارئ.
أما الحضور العسكري الروسي في سوريا فحدّث ولا حرج؛ فإثر تدخلها المباشر في سبتمبر العام 2015، غدت صاحبة الأمر والنهي في الملفات الرسمية الساخنة للنظام السوري، بما فيها قرارات القصر الجمهوري. وفي حين قام بريمر في العراق بحل الجيش العراقي إثر دخول القوات الأميركية لإسقاط نظام صدّام حسين، فقد دعم بوتين جيش الأسد الذي لولاه لما بقي بشار الأسد في السلطة يوما واحدا، بعد أن كان قد خسر السيطرة على ثلثي الأراضي السورية لصالح المعارضة السورية، وذلك قبيل أشهر فقط من التدّخل العسكري الروسي.
وفي حين انسحب الجيش الأميركي من أرض العراق، فإن بوتين جلب إلى سوريا نخباً من خبراء جيشه، وعتادا قتاليا هو أحدث ما أنتجته موسكو من طائرات سوخوي 35 ومنظومة الصواريخ أس 300، بهدف دعم قوات الأسد في عملياتها العسكرية، ومن ثم الاستقرار في قاعدة طرطوس العسكرية، التي سبق أن استخدمتها بشكل متقطع إبّان العهد السوفييتي، ونجح أخيراً في “استئجارها” من بشار الأسد بشكل رسمي، ولمدة 49 عاماً قابلة للتمديد.
إن استقرار الجيش الروسي في قواعد ثابتة في سوريا، ودوره المتعاظم في القرارات المبرمة على الأرض إنما يعنيان الكثير للرئيس بوتين؛ فعلى المستوى الاستراتيجي، هو يرسل من القاعدة العسكرية الضخمة على شواطئ البحر المتوسط رسالة قوية إلى العالم مفادها أن روسيا وصلت أخيراً إلى المياه الدافئة، وهي قابعة هناك لسنوات مديدة، وقد خرجت من تجاذبات الحرب الباردة مع الولايات المتحدة لتدخل مرحلة توازن القوتين.
وقد يكون من المرارة القول إن بوتين، وإثر خسارته لحليفين قويين في العراق وليبيا هما صدام حسين ومعمّر القذافي، قد يجد أنه لا بدّ مما ليس منه بدّ لدعم بقاء بشار الأسد في السلطة إلى أن يتوفر البديل القوي الذي يستطيع أن يأمن جانبه، ويثق به، حين تنقلب المعادلات الدولية أو تميل التوازنات الإقليمية، ولاسيما أن موسكو ليست وحدها صاحبة النفوذ البليغ على الأرض السورية.
مرح البقاعي – كاتبة سورية أميركية – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة