الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مثالي في أقواله، وميكيافيلي في أفعاله، وموقفه الأخير في قمة «الناتو» يجسد كلية هذا التناقض؛ قبل القمة فاجأ إردوغان العالم، وبالذات بوتين، بقبوله مغادرة أسرى حرب لأوكرانيا كان قد تعهد لموسكو إبقاءهم في تركيا حتى انتهاء الحرب، ثم سمح للفرنسيين بالإشراف على المفاعل النووي الروسي في تركيا، ولم يكتفِ بذلك فأبلغ الرئيس الأوكراني خلال زيارة الأخير لتركيا أن البوارج التركية سترافق شحنات القمح الأوكراني في البحر الأسود إذا لم يجدد الروس اتفاق القمح. وتوج إردوغان هذه الانعطافات الحادة بقبوله عضوية السويد، فاستقبله قادة «الناتو» بالترحاب، في حين شعر صديقه بوتين بالخيانة. بوتين كان دائماً يقول: إن «مصالح روسيا متضاربة مع تركيا، لكنني أثق بإردوغان»؛ بوسعنا أن نتخيل حجم المرارة!
يجب ألا نغفل في السياسة التاريخ؛ لأنه يوفر على الأقل بوصلة لاستشراف المستقبل، وخاسر من لا يعتبر به. والتاريخ الحديث، ناهيك بالقديم بين روسيا وتركيا، حافل بتضارب المصالح، وبتحالفات ظرفية سرعان ما تنهار مع تغير الظروف مثل اتفاقية الصداقة بين أتاتورك ولينين في عام 1921، ودخول تركيا حلف «الناتو» خلال الحرب الباردة. وبرر أتاتورك آنذاك تركه روسيا بأن تركيا ستكون أكثر أماناً، وأن مستقبلها مع الغرب. ولعل بوتين، لمعرفته بخلفية إردوغان الإسلامية، راهن على معاداته للغرب، مما حمله على تجاهل دقة تضارب المصالح بين بلاده وتركيا، وبالذات في أماكن احتكاك مثل سوريا وأرمينيا، وتجاهل الهوية الطورانية لإردوغان المهددة لحزام الأمن القومي الروسي. بالمقابل لم يغب قَطّ عن فكر إردوغان أن الرئيس بوتين يعمل على إعادة روسيا القيصرية المتصارعة في الشكل والجوهر مع العثمانية الجديدة. وكان يدرك أن مصالحه مع بوتين ظرفية، في حين أن مصالحه مع الغرب بنيوية وضرورية. ويعرف إردوغان، وكذلك بوتين، أن تاريخ بلادهما تاريخ اقتتال وصراع على النفوذ، وأن هذا الصراع تجدد في أرمينيا وفي سوريا ووصل لحد الاصطدام، وقد يتفجر مستقبلاً.
راهن إردوغان، رغم إدراكه للتاريخ مع روسيا، على الرئيس بوتين للموازنة به مع الغرب لكيلا تضيع مصالح بلاده في سوريا وليبيا ودول أخرى؛ فالغرب يريد من إردوغان أن يكون تابعاً وليس شريكاً، والتابع إن لم ينفذ يُعاقب؛ لذلك عندما انقلب الأميركان على حكومة أجاويد اليسارية في الثمانينات، ودعموا الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال التركي كنعان إيفرين؛ زفّ آنذاك وزير خارجية أميركا الجنرال هيغ خبر الانقلاب لقادة «الناتو» المجتمعين بعبارة: «فعلها أولادنا». لهذا لم يسارع الغرب لدعم إردوغان عندما انقلب عليه العسكر، بل كان داعمه الأهم الرئيس بوتين الذي كان إردوغان على وشك خوض حرب عسكرية معه في شمال سوريا. وكما رأى إردوغان ببوتين سنداً؛ رأى الأخير فرصته في التقارب مع إردوغان لإبعاده عن الغرب. هكذا تراجع إردوغان عن إسقاط الأسد، واكتفى بحماية حدوده من الأكراد، وتفاوض مع إيران، وأصبح ظاهرياً في معسكر معادٍ لـ«الناتو»، لكن بوتين بعد حرب أوكرانيا وفشل قواته، وبعد انقلاب قوات «فاغنر» عليه، لم يعد السند الاستراتيجي الموازن للغرب، بل أصبح عبئاً عليه إن لم يكن تهديداً؛ فإردوغان المتخبط اقتصادياً يدرك مدى حاجته لاستثمارات الغرب، ويعرف بالمقابل حاجة الغرب الاستراتيجية له؛ ولهذا رأى الفرصة سانحة لانعطافة أخرى تُتوج انعطافاته السابقة؛ فالانعطافة الأخيرة نحو الغرب يأمل منها تحقق أمرين: تعزيز موقعه داخل تركيا، وبروزه كزعيم خارجياً؛ فداخلياً يحصل على الدعم الاقتصادي الغربي الذي يثبت شرعيته مع ناخبيه، وخارجياً يبرز كمناور، وزعيم قوي يتحالف وفق شروطه، ويبرز كبطل يدافع عن العالم الثالث؛ فقادة أفريقيا باجتماعهم أخيراً في موسكو طالبوا بوتين أن يقدم بادرة سلام لأوكرانيا؛ لأنه لا يمكن أن يتحملوا تبعات هذه الحرب الاقتصادية على بلدانهم. ومجرد أن يطالبوا بوتين بذلك يعني أنه لم يعد الأمل المرتجى، والرئيس القادر على تحدي الغرب؛ ولا عجب أن نرى إردوغان يعلن للرئيس الأوكراني أنه سيضمن مرور القمح ولو بالقوة. هذا يعني أنه يريد كسب تأييد زعماء العالم الثالث، وبالتحديد قارة أفريقيا التي يهتم بها كثيراً؛ لما تملكه من موارد كبيرة، وأسواق واسعة.
انعطافة إردوغان تمثل قمة الواقعية السياسية، وتمثل قراءة عقلانية للواقع الدولي المتغير الذي يتطلب تغيراً في السياسات. ويحاول إردوغان رغم هذه الانعطافة أن يبقى في المنتصف، لكنه يدرك، بالوقت ذاته، أن الأحداث أكبر منه؛ فهو يدرك ضعفه مقابل الغرب، وأن هذا الضعف تضاعف بعدما شاهد قوة الغرب وتضامنه في أوكرانيا، ورأى أن الصين رغم وعودها لموسكو تأخذ ما تحتاجه من نفط روسي بنصف السعر، ولا تعطي بوتين مقابل ذلك صاروخاً واحداً. كما شاهد الهند تسعى للتقارب أكثر للمعسكر الغربي… كل تلك التطورات جعلته يتخلى عن بوتين، ويرصد الآتي استعداداً لانعطافة أخرى، والقفز إلى الضفة الأخرى؛ فإردوغان بقدر حاجته للغرب يدرك أن الود مقطوع بينهما، وأن الغرب يتآمر عليه، وبالتالي ينتهج نظرية التعامل مع الواقع بقمة الانتهازية المحسوبة؛ لذا نراه يحاول بسرعة ترميم علاقته ببوتين، والسعي لقمة معه، ونرى كذلك غضب بوتين البالغ، لكن بوتين، رغم ذلك، يحتاج إردوغان أكثر مما يحتاجه إردوغان؛ ولذلك سنشهد ترميماً للعلاقة، لكن على أساس الضرورة والكذب المتبادل!
يُعرف عن بوتين إدمانه على قراءة كتاب «الأمير» لميكيافيلي بشغف، ويُعرف كذلك عن إردوغان أنه أستاذ في هذا الفن، وهذه الأستاذية ستحرمه حتماً من الأصدقاء الحقيقيين، ولا ضير بذلك ما دام أنه بما قاله وزير خارجية بريطانيا بلمرستون للملكة فيكتوريا عندما سألته لماذا لا تجد أصدقاء لبريطانيا، قال: «سيدتي، نحن ليس لدينا أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون، إنما لدينا مصالح دائمة».
أحمد محمود عجاج – كاتب ومترجم لبناني – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة