هل يمكن مد يد التعاون مع حقود مثل أردوغان وهو يقطع إمدادات العراق من مياه دجلة والفرات حتى أصبحت “بلاد النهرين” أرضا يبابا بعدما أصبح النهران ساقيتن تغمرهما الشحة ويملأ فروعهما الجفاف.
ابتزاز جديد
هل من أحد يقول لرجب طيب أردوغان إنه يطلب العون ممن أضر بهم، وعاداهم وسعى إلى زعزعة استقرار بلادهم؟
ذهب أردوغان إلى الرياض وأبوظبي ليطلب استثمارات وقروضا وتمويلات. لم تتعرض الإمارات ولا السعودية ولا حتى مصر من حروب أردوغان الدعائية ضدها إلى أضرار لا يمكن ردمها. ولذلك فقد امتلكت كل ما تحتاجه من المرونة في التعامل مع أردوغان لأجل أن تحمله على محمل تركيا، وأن تتحمله على هذا الأساس. مدت له يدا، وهي تعرف طبائعه جيدا. فلم تبسطها كل البسط.
تركيا قد تتأخر في المجيء، إلا أنها سوف تأتي في النهاية. هذا هو المعيار الأساس، بالنسبة إلى الرياض وأبوظبي والقاهرة. منحها القدر الجغرافي رفاهية ألا تكون لديها حدود مع تركيا، فامتلكت رفاهية النظر إلى المستقبل بعقل بارد، وإن جاوره قلب حار.
ولكن الأمر مختلف في بغداد. أو يجب أن يكون مختلفا هناك. لأن ما تفعله تركيا أردوغان يرقى إلى مستوى حرب تطال الزرع والضرع، ليس بأقل ممّا تطال حياة البشر. كما ليس بأقل ممّا تطال صورة بلاد النهرين في التاريخ.
◙ أردوغان يستعد لزيارة بغداد، ليستعرض ما يمكن أن يفعله من أعمال الابتزاز. سوف يعرض أن يطلق كميات من المياه، وهي من حق العراق، ليطلب مقابلها امتيازات تجارية إضافية
أردوغان يعمد الآن إلى أن يشوه هذه الصورة. يعمد إلى أن يدوسها تحت أقدامه، حتى لتستغرب كيف يجرؤ أن تطأ قدماه أرض العراق. حتى لتستغرب كيف يمكن استقباله كرئيس، بدلا من اعتقاله.
فلو اكتفى العراقيون بإحصاء ما أضرهم به أردوغان، لكان الواجب أن يطردوا سفارته بدلا من أن يستقبلوه. بل لكان الواجب أن يطهّروا أرض بلادهم من جندرمته، ويقطعوا كل خطوط التجارة والتبادلات مع تركيا، ويعلنوا استعدادهم لدعم حقوق الأكراد في تركيا وصولا إلى إقامة فيدرالية كردية، على غرار كردستان العراق، لكي تشكل حاجزا جغرافيا بين العراق وبين دولة الانكشارية التي يقودها أردوغان.
صادرات نفط كردستان عبر ميناء جيهان كانت تتراوح بين 600 و300 ألف برميل من النفط يوميا. وقف هذه الصادرات يسجل خسائر بين 45 مليون دولار و23 مليون دولار كل يوم، أي ما بين 1.3 مليار دولار و650 مليون دولار كل شهر. لماذا؟ لأن أردوغان اختار أن يبيع هذا النفط بالتواطؤ مع الفاسدين في حكومة كردستان بقيادة مسعود بارزاني، أحد أكبر المرتبطين بأجهزة مخابراته. فلمّا اعترضت بغداد، وأقرت محكمة باريس التجارية أن يسدد تعويضات للعراق تبلغ نحو 1.5 مليار دولار، قرر وقف استخدام أنبوب الصادرات، مما ألحق بالعراق وبكردستان خسائر تزيد عن 3.5 مليار دولار حتى الآن.
هل يمكن مد يد التعاون مع حقود مثل أردوغان؟ وهو يقطع إمدادات العراق من مياه دجلة والفرات، حتى أصبحت “بلاد النهرين” أرضا يبابا، بعدما أصبح النهران ساقيتن تغمرهما الشحة ويملأ فروعهما الجفاف.
لم تحترم تركيا أردوغان حصصا مقررة سلفا، ولا اتفاقيات، كما لم تحترم مناشدات المسؤولين العراقيين الذين تقاطروا على امتداد عدة سنوات إلى أنقرة بحثا عن حل لمشكلة نقص إمدادات المياه. لم تحترم تركيا حتى مصالحها مع العراق عندما نظرت إليه كسوق لتجارتها وبضائعها، من دون أن تُعامل هذا السوق بما تستوجبه التعاملات مع أيّ سوق من مراعاةٍ لمصالح الطرف الآخر. ولكنها راهنت على أن حكومة الميليشيات في بغداد ليس فيها رجل واحد يستطيع أن يوقف الضرر أو أن يقول لأنقرة “وصلنا إلى الحد الذي ما بعده حد، إلا السيف”.
◙ أردوغان سوف يعود ليستخدم وجود مقاتلي حزب العمال الكردستاني كذريعة للمزيد من التوسع في نشر قواته داخل العراق
لم يظهر رجل مثل هذا في بغداد حتى الآن. حتى ليستغرب المرء كيف انحدر العراق إلى درك مثل هذا.
قل ما شئت في “دكتاتورية” صدام حسين. ندد بنظامه من هذه الساعة إلى صباح اليوم التالي. ولكن، عندما بلغه، ذات يوم، أن تركيا تعتزم خفض إمدادات المياه عن العراق، قال فليفعلوها وسيرون الجواب غدا. فلم يفعلوا. خافوا أن تهدم الطائرات العراقية السدود التركية على دجلة والفرات.
كان رجلا يوم تعز الرجال،.. إلى أن مات. فورثه من تعز الرجولة عليهم كما يعز الماء على الفرات.
ويتخذ أردوغان من وجود مسلحين تابعين لحزب العمال الكردستاني ذريعة لأجل أن ينشر قواته داخل العراق، وأن يشن هجمات، طال بعضها مواقع سياحية وأدت إلى مقتل مدنيين. ومسحت حكومة الميليشيات في بغداد قفاها بالجريمة. و”لغمطتها” حتى لا تتضرر حسابات البنوك الميليشياوية التي تتخذ من تركيا معبرا لتهريب الأموال. كان لتلك الحكومة، ولقفاها، مصلحة في الصمت على ما يرتكبه أردوغان من جرائم ضد العراق.
وتتخذ مخابرات أردوغان من أربيل مركزا لأعمال الاغتيالات ضد المناضلين الأكراد. حتى طالت سجلات هذه الأعمال العشرات من النشطاء المدنيين الأكراد المناهضين لسلطات الطغيان في أنقرة، من الأكراد الأتراك والسوريين والعراقيين معا.
◙ لو اكتفى العراقيون بإحصاء ما أضرهم به أردوغان لكان الواجب أن يطردوا سفارته بدلا من أن يستقبلوه، وأن يطهروا أرض بلادهم من جندرمته ويقطعوا كل خطوط التجارة والتبادلات مع تركيا
يستعد أردوغان لزيارة بغداد، ليستعرض ما يمكن أن يفعله من أعمال الابتزاز. سوف يعرض أن يطلق كميات من المياه، وهي من حق العراق، ليطلب مقابلها امتيازات تجارية إضافية. وقد لا يتردد في مقايضة التعويضات بالماء. وليس من المتوقع أن يطالبه “نفر” واحد من انكشارية حكومة الميليشيات بأن تدفع تركيا تعويضات عما لحق بالعراق من خسائر جراء تعطيل خط النفط إلى جيهان.
وحيث أن مقاتلي حزب العمال الكردستاني هم ليسوا أكثر من بضع عشرات يمكن لحدود أيّ بلدين في العالم أن تضم أمثالهم، إلا أن أردوغان سوف يعود ليستخدم وجودهم كذريعة للمزيد من التوسع في نشر قواته داخل العراق، وفي أن يمنح هذه القوات الترخيص للدخول إلى الأراضي العراقية من دون استشارة حكومة بغداد أو حتى إبلاغها بما قد تنفذه من عمليات.
سلطة “خان شغان” الحاكمة في العراق، لن تجد مفرا من القبول باشتراطات أردوغان، وأن تعرض عليه المزيد من الفرص التجارية، وأن تتيح لشركاته العمل في برنامج “طريق التنمية”، وكأنها لم تكتو بعد من قطعه خط أنابيب النفط إلى جيهان.
السؤال الذي يشغلني، هو كم يوجد في حسابات ميليشيات بغداد من أموال في تركيا حتى ليجوز بيع العراق، بنهريه، وبصورته في التاريخ، وبحياة شعبه، وبالزرع والضرع، حتى ليجوز استقبال أردوغان والتفاوض معه كرئيس بدلا من طرده وطرد سفارته؟
علي الصراف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة