الآلية الجديدة التي انبثقت عن اجتماع الدوحة، جاءت كرجع الصدى للتحولات التركية. وليست هناك أي أهمية للقطريين في هذه الآلية تزيد عن كونهم ماضين في أثر الأتراك.
بدا واضحا أن هناك تدبيرا استراتيجيا جديدا بالنسبة إلى سوريا، نشأ في محاذاة التحولات الجديدة في شكل أو خارطة العلاقات في الإقليم. ويتبدّى العامل التركي، أكثر الأطراف الضالعة في هذه الاستراتيجية ميلا إلى التحول عكسا، في العديد من السياسات التي اتبعتها أنقرة خلال السنوات العشر الماضية، ومعها الدوحة التي تقتفي أثرها. كما بدا أن هذه الأخيرة باستضافتها اللقاء الثلاثي القطري والتركي والروسي، ومشاركتها فيه، واعتماد مأسسة هذا اللقاء لكي يواظب على اجتماعات دورية؛ قد أعطت الإشارة العملية الأهم للتقارب مع السعودية، علما وأن الرياض أظهرت بعض التخفّف من مواقفها السابقة حيال نظام الحكم في سوريا.
ولكي يُصار إلى اجتذاب واشنطن إلى الآلية الجديدة حرصت الأطراف الثلاثة المشاركة في اجتماع الدوحة، على استبعاد الإيرانيين، ولم يقلق هذا الأمر طهران على اعتبار أن الضامن الروسي لبقاء حكم الأسد، موجود بقوة ويؤدي الغرض مستأنسا بوزنه العسكري في البلاد وبـ”أفضاله” على النظام. لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: ماذا يريد التركي من وراء هذه التحولات التي لم تقم على مراجعات موضوعية، وإنما على نوايا مضمرة، ورغبة في الاندفاع إلى مطارح عمل جديدة. فالعلاقات بين مصر وتركيا، شهدت في الأسابيع الأخيرة بوادر انفراج، في موازاة اجتماعات قطرية مصرية، تمثل أولى الخطوات في اتجاه تصفير الخلاف. فما هو الطرف الذي يتراجع عن منهجيته، في هذا السياق كله؟ وما الذي يمكن أن تقرأه جماعة “الإخوان” من التحول في السياسة التركية؟
معنى أن يتغيّر موقف أنقرة من القاهرة؛ أن الأولى لم تعد ترى الحكم فيها انقلابيا مثلما دأبت على وصفه منذ العام 2013. ومعنى أن تشكل أنقرة ـ والدوحة في إثرها ـ إطارا للعمل في الإقليم بالتشارك مع موسكو، لن يكون إلا تراجعا عن موقف رجب طيب أردوغان من النظام السوري. فلا مجال للقول إن التناغم بين العواصم الثلاث، والتوافق على “آلية جديدة” قد جرى على أساس إطاحة الأسد. فكل ما قيل عن هدف هذه الآلية، هو أنها معنية بالبحث عن حل سياسي في سوريا، وذاك هدف عبرت عنه مصر وجامعة الدول العربية والعديد من الدول الأعضاء، ومن بينها السعودية. وعلى الرغم من وجاهة هذا المسعى السلمي، الذي يطوي صفحة الحرب، فإنه يُعدّ بالنسبة إلى تركيا نكوصا عن سياسة اتبعتها خلال سنوات الصراع في سوريا، وإعلانا صريحا بالفشل، ما يؤشر إلى أن أنقرة أخفقت في جعل سوريا منطقة نفوذ لها، وخسرت مسعاها لإضعاف النظام في مصر، ونكثت بتعهداتها لجماعة “الإخوان” وهو ما كان متوقعا.
آلية الأطراف الثلاثة، التركي والقطري والروسي، جاءت كبديل لمسار أو آلية أستانة العاصمة الكازاخية، التي تحولت إلى منصة تتعاطى مفردات الحل السياسي، وإحدى ثلاث منصات تنتسب إلى موسكو والقاهرة وجنيف. وكانت هذه الأخيرة موصولة بالأمم المتحدة ويرعاها السويدي ستيفان دي ميستورا المبعوث الأممي إلى سوريا. وكان ذلك المبعوث، قد استبعد من منصته في اجتماع جنيف 4 في مارس 2017 الطرفين المتشددين ضد بقاء الأسد، وهما الفرنسي والقطري، ودعا وفود منصتي أستانة والقاهرة للمشاركة، وتركزت معظم المباحثات على مسائل الدستور في سوريا المستقبلية، وشكل النظام السياسي والتوزيع الصحيح والعادل لصلاحيات الرئاسة والبرلمان والجيش في سوريا.
المسعى السلمي يعدّ بالنسبة إلى تركيا إعلانا صريحا بالفشل يؤشر إلى أن أنقرة أخفقت في جعل سوريا منطقة نفوذ لها وخسرت مسعاها لإضعاف النظام في مصر ونكثت بتعهداتها لجماعة “الإخوان”
الآلية الجديدة التي انبثقت عن اجتماع الدوحة، جاءت كرجع الصدى للتحولات التركية. وليست هناك أي أهمية للقطريين في هذه الآلية تزيد عن كونهم ماضين في أثر الأتراك، يمينا ويسارا، وهؤلاء يتجهون إلى تغيير في السياسات، تحت ثقل الكثير من المصاعب التي يواجهها الحكم في الداخل وفي الخارج. ففي المحصّلة، لا يريد النظام التركي أن يخسر كل شيء من جراء مساندة جماعة لا يقبل ولا يستطيع أن يستنسخها في بلاده، ولا أن يرتضي أن تتسلم الحكم النسخة التركية. فقد استُخدمت النسخة الأصلية، لتأدية دور مساند للطموحات الأردوغانية في المنطقة، وانحصرت مهمة الجماعة في تأثيم الأنظمة الحاكمة على افتراض أن تأثيمها يُسقطها ويفتح الطريق واسعا أمام عثمانية جديدة.
السعوديون بدورهم تصرفوا بمنطق القائل “أطلقني وخذ عباءتي” فيمّموا وجوههم شطر أنقرة التي وجدت فرصتها سانحة للعودة إلى سياسة تصفير المشكلات التي اخترعها خبير العلاقات الدولية أحمد داود أوغلو، الذي جرى إقصاؤه بعد أن كان الرجل الثاني في النظام التركي بسبب توتر علاقته مع أردوغان.
آلية الدوحة الجديدة جاءت بمثابة إعلان وفاة آلية أستانة ـ سوتشي السابقة. ولا تجد موسكو غضاضة في فشل تلك الآلية، على الرغم من إنكار كونها فشلت. فمجرد الإعلان عن الآلية الثلاثية الجديدة تأكّد الفشل موضوعيا وجرى تغيير العناوين والأدوار.
ولم يكن استبعاد إيران إلا لعدم إزعاج واشنطن التي يُرجى منها العون على الرغم من تصاعد التوتر بين موسكو وإدارة بايدن. إن مصلحة الأميركيين في سوريا، تقتصر على دعم قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي من البلاد، وبخلاف ذلك تكتفي بمواصلة العقوبات المفروضة على النظام السوري. ويبدو أن التغييرات في المشهد كلّه، قد شملت المعارضة السورية نفسها. فقد كانت الرياض تصرّ على استبعاد رياض حجاب رئيس الوزراء السوري الأسبق المنشق، لكن الرجل عاد مؤخرا إلى واجهة المعارضة بفضل التقارب السعودي القطري واستضافته قناة “الجزيرة” لكي يقول كلاما لم يكن يُرضي القطريين، وتطوّع مقدم برنامج الاستضافة بشرح المراد قوله، وهو أن “الإسلام السياسي حرف الثورة السورية عن أهدافها”، وفي المقابلة أكد حجاب على “ضرورة إعادة هيكلة المعارضة السورية بصورة شاملة!”
في هذه الأثناء، وتأكيدا على خيبة أمل أنقرة، كان وزير الخارجية الروسي في السعودية وفي الإمارات. هناك لم يَطرح شيئا سوى رغبة موسكو في إخراج النظام السوري من عزلته. ولا تزال موسكو ضعيفة الاستجابة لأي مطمح شعبي سوري في تغيير بُنية النظام، لكن ذلك لم يعد سببا خلافيا من جانب أنقرة، وهذا يؤكد بجلاء عدم اكتراث النظام التركي لمصير سوريا والسوريين أو الإخوان والإخوانيين.
عدلي صادق – كاتب وسياسي فلسطيني – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة