مع إصرار أنقرة على إتمام صفقة منظومات “إس 400” الصاروخية الروسية، تتوالى تهديدات واشنطن بتجميد صفقة أخرى تتصل بمقاتلات “إف35” الأميركية، والتي تشمل بيع تركيا 100 مقاتلة منها بقيمة تسعة بلايين دولار، علاوة على إسهام شركات التصنيع العسكري التركية في برنامج تصنيع تلك المقاتلات منذ العام 2002، والذي انطلق في تسعينات القرن الماضي لإنتاج نحو 2500 طائرة بكلفة إجمالية تتخطى400 بليون دولار.
بعدما تسلّم الأتراك أربع مقاتلات من طراز “إف 35 “، بقيت في قاعدة “لوكا” الجوية الأميركية (حتى انتهاء البرنامج التدريبي للطيارين وطواقم الصيانة)، يكثف الكونغرس الأميركي جهوده لتقويض “الصفقة” إلى حين تأكيد وزيري الدفاع والخارجية الأميركيين إلغاء أنقرة صفقة المنظومات الصاروخية الروسية، مطالباً في الوقت نفسه بفرض عقوبات على أنقرة بموجب “قانون مكافحة أعداء أميركا” المعروف اختصاراً باسم “كاتسا”. وفي غضون ذلك، أعلن وزير الدفاع الأميركي بالوكالة باتريك شاناهان، في رسالة إلى نظيره التركي خلوصي آكار، عزم بلاده وقف تسليم أنقرة المقاتلات وتجميد مشاركتها في برنامج تصنيعها بحلول 31 تموز (يوليو) المقبل. كما هددت مساعدة وزير الدفاع الأميركي ألين لورد، بطرد الطيارين الأتراك المتدربين، ملوحة بعدم دعوة تركيا لحضور اجتماع المائدة المستديرة لمشروع المقاتلة الأميركية المقرر عقده الأسبوع المقبل في بلجيكا. ورداً على تهديد أردوغان باللجوء إلى التحكيم والقضاء الدوليين في حال تراجع واشنطن عن إتمام صفقة مقاتلات “إف 35” من طرف واحد، ألمحت مصادر أميركية إلى استعداد واشنطن لتعويض الأتراك مادياً، إذا ما استدعى الأمر. وإلى جانب الاعتبارات السياسية والاستراتيجية، ربما يرتهن مدى استعداد واشنطن لاستبعاد أنقرة من برنامج تصنيع مقاتلات “إف 35” بحجم ونوعية الإسهام التركي الفعلي فيه، واللذين يلفهما شيء من الغموض. فبينما تؤكد وزارة الدفاع الأميركية تصنيع شركات سلاح تركية نحو 937 مكوناً خاصاً بتلك المقاتلات يتصل أغلبها بمعدات الهبوط وجسم الطائرة، ومن ثم يمكن الاستعاضة عن تركيا بدولة أخرى كالهند أو اليونان، يجنح الأتراك لتضخيم ذلك الإسهام بالادعاء أن كبريات شركات الصناعات الدفاعية التركية مثل “أسيلسان”، و”هافيلسان”، و”كاليه آيرو”، و”كاليه برات” و”ويتني” و”آيساس” و”ألب” للطيران، تشارك في صناعة مكونات رئيسة في المقاتلة الشبحية أبرزها: وحدة إطلاق الصواريخ من بُعد، ونظام عرض قمرة القيادة البانورامي، إضافة إلى الهيكل الميكانيكي للطائرات، والقِطع التي تثبِّت دواليبها أثناء الهبوط، علاوة على40 في المئة من نظام الربط الكهربائي السلكي للمحرك وأكثر من 100 قطعة أخرى فيه، من بينها شيفرات الدوارات المتكاملة وأجهزة التحكم المصنوعة من مادة التيتانيوم. كما يعتبر الأتراك بلادهم المصدر الوحيد عالمياً لإنتاج مركز جسم الطائرة وأبواب حجيرة الأسلحة وأبراج حمولة الجو – أرض المستخدمة لنقل المعدات.
وبناء عليه، حذرت وكالة “بلومبيرغ” الأميركية، من مغبة إيقاف الرئيس التركي تدفق تلك المكونات التركية حال تجميد واشنطن صفقة مقاتلات “إف35″، فيما حذر وزير الدفاع الأميركي السابق، جيمس ماتيس، في خطاب للكونغرس، من أن يتسبب انقطاع توريد المكونات التركية في تعطيل خط إنتاج تلك المقاتلات، ما سيؤخر تسليم 50 إلى 75 منها لمدة تتراوح ما بين 18 إلى 24 شهراً، إلى حين توفير مصدر بديل للمكونات المصنوعة في تركيا.
وحتى انقضاء المهلة التي حددتها واشنطن لأنقرة حتى تتراجع عن صفقة “إس 400” الروسية، يتوقع أن تجري مياه كثيرة في مجرى الأزمة الحالية. فبالتزامن مع استمرار تدهور الاقتصاد التركي، ستجري في الـ23 من الشهر الجاري انتخابات الإعادة لرئاسة بلدية اسطنبول، والتي تشي مؤشرات عدة بأن يخسرها مرشح حزب “العدالة والتنمية” و”تحالف الشعب” للمرة الثانية أمام مرشح المعارضة. وهو الأمر الذي من شأنه أن يغذي التصدعات داخل الحزب الحاكم ويفاقم الضغوط على أردوغان، الذي ما برح يشاطر المسؤولين الأميركيين أملهم في إيجاد مخرج ملائم للأزمة مع واشنطن في إطار الشراكة الاستراتيجية والحفاظ على التعاون الأمني الشامل بين البلدين. وتبدي دوائر أميركية قلقها من أن تفضي محاصرة إدارة ترامب لتركيا بالعقوبات المتنامية إلى دفع أردوغان نحو تسريع وتعميق خطواته التقاربية مع كل من موسكو وبكين وطهران.
بموازاة هلع الأتراك من تأثر اقتصادهم المترنح أصلاً بأي عقوبات أميركية جديدة، تخشى أنقرة من عقوبات عسكرية يمكن أن تنال من المستوى التسليحي للجيش التركي. فمن واقع بيانات “رابطة مصنعي السلاح والطيران”، تعد الولايات المتحدة أكبر مورد للسلاح إلى تركيا، كما تستخدم القوات المسلحة التركية طائرات ومروحيات وصواريخ موجّهة وذخيرة وصواريخ بحرية وأنظمة محركات أميركية الصنع، أو مزوَّدة بأنظمة أساسية أميركية، كالمحركات وأنظمة الرادار والأنظمة الإلكترونية. كذلك، يخشى الأتراك من الأضرار الجسيمة لأي عقوبات عسكرية أميركية محتملة على صناعة الدفاع التركية الناهضة، التي تعتمد بدرجة كبيرة على شراكات مع مجمعات التصنيع العسكري الأميركية تتيح لشركات التصنيع العسكري التركية إنتاج أجزاء ومكونات مهمة في أنظمة صاروخية وطائرات حربية وهليكوبتر مدنية وعسكرية علاوة على الطائرات المسيَّرة من دون طيار، ما أسهم في نقل التكنولوجيا العسكرية المتطورة إلى تركيا، كما ساعدها في إنتاج أسلحة متطورة وتسويقها عالمياً بالاعتماد على محركات ومكونات دقيقة أميركية الصنع. وبينما توالت تصريحات المسؤولين الروس والأتراك في شأن إمكان شراء تركيا مقاتلات “سو57” الروسية في حال تجميد واشنطن صفقة مقاتلات “إف35″، يبقى الحديث عن البديل الروسي للمقاتلة الأميركية رهناً بأمرين: أولهما، عدم تأكيد أنقرة وموسكو رسمياً أية أنباء في هذا الصدد، إذ أعلن مصدر في مكتب الصناعات الدفاعية التركية في 27 أيار (مايو) الماضي أن التقارير التي نشرت في وسائل الإعلام التركي حول إمكان شراء تركيا للمقاتلات الروسية “سو-57” بدلاً من “إف-35” الأميركية، معدة على أساس آراء الخبراء ولا تعكس الموقف الرسمي لأنقرة. وبعدما ذكرت صحيفة “يني شفق” التركية، أن تركيا قد تقرر شراء “سو-57″، إذا حظرت الولايات المتحدة توريد “أف-35” بسبب شراء أنقرة منظومة الدفاع الجوي الروسية “أس-400″، عادت وشددت على أن أنقرة لا تنوي التخلي عن حقها في المقاتلات الأميركية. أما الأمر الثاني، فيتجلى في تفوق المقاتلة الأميركية على نظيرتها الروسية، حيث تتمتع الأولى بمزايا رئيسية منقطعة النظير كاتساع المدى القتالي وتعاظم إمكانات الرادار، فضلاً عن القدرة الفائقة على التخفي، إذ تعد واحدة من طائرات الجيل الخامس أحادية المقعد والمحرك، متعددة المهام.
في المقابل، يحبذ جناح داخل المؤسسة العسكرية التركية شراء أسلحة متطورة من روسيا بدلاً من النسخ الأقل تطوراً من السلاح الأميركي، خصوصاً مع تفاقم الضغوط الإسرائيلية على واشنطن حتى لا تبيع تركيا نسخاً متقدمة من مقاتلات “إف 35 ” وتحجب عنها “القدرات التحديثية”. وبينما تتشابه المقاتلة الروسية الشبحية مع نظيرتها الأميركية في مزايا عدة كالانتماء للجيل الخامس والقدرة على المناورة، أحادية المقعد ومتعددة المهام، إلا أنها تتفوق عليها في أمور أخرى كرخص ثمنها مقارنة بنظيرتها الأميركية، كما تعد أفضل تسليحاً.
وعلى وقع الصفعة التي يتلقاها أردوغان من نظيره الروسي في إدلب السورية هذه الأيام، مع مواصلة القوات الروسية والسورية غاراتها على المدينة التي يتموضع بها حلفاء تركيا من الجماعات المسلحة والمعارضة السورية، في ما يشي بأن موسكو لن تقدم أي مكافآت لأنقرة في سورية مقابل تحدى واشنطن والناتو والتمسك بصفقة “أس-400″، ربما يضطر أردوغان إلى مراجعة حساباته والعودة إلى الحاضنة الأميركية، بعدما يوقن بجدوى شراكة مجحفة بمغانم أقل لكنها أكثر نجاعة واستقراراً مع واشنطن والناتو والغرب، بدلاً من تقارب اضطراري ومرحلي وهش، ومحفوف بالمخاطر مع روسيا وإيران.
بشير عبدالفتاح – كاتب مصري – صحيفة الحياة