بشار جرار – واشنطن
في المطلق مازلنا في دائرة ردود الفعل، وليتنا نحسبها جيداً ونتعلم من أخطاء ما سبقها من ردود أفعال. كلنا في هذا الداء شرق: نظماً وشعوباً، موالاة ومعارضة وحتى أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مؤثرين عبر منابر الصحافة والخطابة خاصة الوعظية والدينية منها. تمعّنوا أحبتي ما بين السطور وأبعاد المشهد لتتضح المنطلقات والمحركات التي غالباً ما تكون إسقاطاً ذاتياً على الواقع أو الآخر، فنظن أن المشاعر، كلمات وأنها بمجرد تلفظها صارت مواقف لا بل وواقعاً سيبقى رغائبيا “افتراضياً”!
كصحافي وككاتب من بعد، لطالما تساءلت: لم يختلف الطبيب والمهندس والمحاسب والصيرفي تحديداً عن الصحافي في رؤية الأمور بموضوعية ومن ثم طرحها بأمانة بلا تغليف ولا تعليب يقلب الأبيض أسود وينكر وجود الألوان الرمادية المتدرجة بينهما؟ خدمتي في بيئات عمل متباينة في ظروفها وأجنداتها في ثلاث قارات على مدى ثلاث عقود ونيف، علمتني أن المشكلة تكمن في فهم الدور ومن ثم الرسالة. فبعض الأقلام تتعرض لأبراج عاجية وتستوطن هي نفسها برجاً عاجياً آخراً متمترساً خلف عقلية الحصن، عقلية ترى نفسها دائماً على حق وفي حال دفاع عن النفس بأشبه ما يكون بارانوياً الاضطهاد أو الوسواس القهري.
الكتابة الحرة أمينة بالضرورة. بمعنى خالصة لوجه الله وحده. وفي المعنى المهني يترجم هذا الشعار بمعنى ولاء الصحافي المطلق للقيم محل الإجماع النسبي الإنساني والوطني كقيم الخير والحق والجمال. المتعرف حديثاً على هذا النوع من الصحافة الحرة يدرك شيئاً فشيئاً مع الطالع والممارسة أن الولاء يكون حتى لمالك المنبر الذي يعمل فيه وتلك أرفع درجات الولاء، إن كان قائد المؤسسة الصحافية مهنياً )كصحافي( أو ذكيا )كتاجر(أو محترفا) كسياسي بل حتى وإن كان رجل أمن مدني معار الإدارة مؤسسة صحافية(! إن السلعة التي تبور هي المصداقية وليست الإثارة التي لن تكفيها أموال الدنيا والفضائح البشرية منذ قابيل وهابيل وحتى يومنا هذا لإدامة ضخ محتوى خاصة للمحارق الكبرى الفضائيات وما يزاحمها الآن من منصات التواصل الاجتماعي.
الشكل الا ريب مهم لكن المضمون أهم وأبقى. كم من “السنابات” و”التكت توكات” التي فاقت في رواجها وتأثيرها – وهو الأهم – على برامج بميزانيات ضخمة؟ فللزملاء في المهنة أقول: تخيفنا سياسات الإبعاد والإقصاء والاستقواء والاسترضاء وال حتى التنكيل بأنواعه من تشهير، وتضييق في الرزق وتلويح بعقوبات أكثر غلظة كالحبس أو حبس الأنفاس على الطريقة التي قضى فيها المرحوم جورج فلويد تحت ركبة الشرطي العنصري الأخرق ديريك شوفين بمينابولس في والية مينيسوتا أواخر الشهر الماضي.
صحيح أن دعاة تكميم الأفواه وتكسير الأقلام لم يرحموا حتى أصابع تداعب ريشة كاريكاتور كما حدث مع أيقونة الكاريكاتور السوري علي فرزات الحائز على جائزة زخاروف للسلام عام ألفين وأحد عشر، لكن رسوماته مازالت خالدة وما رسمه كاريكاتورياً تمكن سوري آخر خرج من رحم “النظام” ) مصور في الجيش السوري مختص بتصوير أدلة الطب الشرعي (ليسرب عشرات آلاف الصور الحقيقية للتعذيب فيما عرف لاحقاً بقيصر الذي حمل اسم العقوبات الأميركية على سوريا. ها قد مر أسبوع على هذه العقوبات، و ياللأسف مازالت ردود الفعل على تباينها “حراثة جمال”! أطلق الجميع العنان لقدراتهم اللغوية الإنشائية في “التفلسف” حول كلمة قيصر! هذا ارتكز على رمزية كون ترامب قيصر روما الجديدة وذاك شطح خياله باسم موقعه “الديني” بترديد عظة السيد المسيح: أعط ما لقيصر لقيصر وما هلل هلل. يعلمون جميعهم أن المشكلة هي القمع وهو الداء الأساسي الذي استجلب الإرهاب والخيانة والفساد. لا شك لدي بأن سوريا كانت وستبقى مستهدفة كما كان العراق ومصر مثال، لكنهم جميعاً يعرفون وخاصة رجال السياسية والأمن أن القمع لا يحقق أمناً ولا رفاها. حتى لا نبقى “ندق المي”، هل لا أسأل أن يقوم ناصح أمين بالهمس في آذن السيد الرئيس: بيّض السجون، اطلق حملة اعتراف واعتذار عن تعذيب الناس حتى لو كانوا إرهابيين وخونة، فكرامة الروح لا كرامة الإنسان وحدها يجب أن تبقى مقدسة إن كان في ضمائرنا ذرة خير. أما سياسيا، فقد تكون الإشارة الأكثر دلالة في المؤتمر الصحافي الذي عقده نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية السوري، وليد المعلم قبل أيام هي استعداد دمشق مساعدة مصر في تصديها للغزو التركي في ليبيا وهو موقف مناقض لإيران. هذه بارقة أمل أرجو أن يلتقطها الأعداء والأصدقاء في آن واحد. من العبث تكرار سوريا البعث لخطايا وخطابية عراق البعث في التعامل مع مسألة العقوبات. رحم الله طارق عزيز ومحمد سعيد الصحاف. توظيف الأخير لكلمة “العلوج” أحالت الحماس وعنتريات ردود الفعل إلى خيبات أمل وويلات لم تنته برحيلهما عن مسرحي السلطة والحياة. أفال من حركة “تصحيحية” ثانية يا سيادة الرئيس؟ بك أو بمن تستأمنه على سوريا؟ تصحيح المسار الآن ودونما إبطاء من شأنه تفادي الصدام.. والعاقل من اتعظ بغيره..
الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي د. بشار جرار – أوغاريت بوست