تسابق موسكو الزمن في تنفيذ استراتيجيتها في سوريا، لفرض نظام الأسد، كأمر واقع، رغم أنه لا يسيطر إلا على 60 بالمئة من الأراضي السورية، وذلك عبر ابتسار مقررات جنيف1، والقرار الأممي 2254، بإصلاحات دستورية، تعيد إنتاج النظام، بمشاركة صورية من المعارضة، وبالتنسيق مع أنقرة، مستغلة رفضها للأجندات الانفصالية الكردية شرق الفرات، وبعد أن حشرتها في زاوية ضيقة من ملف إدلب، بين مطرقة القبول بالشروط الروسية بفتح الطرق الدولية، وإنهاء ملف تحرير الشام وبقية الجهاديين، وسندان عودة الهجوم العنيف وقضم مناطق المعارضة والتسبب بأزمة نزوح تفوق احتمال تركيا.
في نفس توقيت الإعلان عن تشكيل لجنة دستورية، وفق وصفة مؤتمر سوتشي الروسي لـ”الحوار الوطني” المنعقد في مطلع 2018، صدرت ردود أفعال أميركية رافضة للخطوة الروسية، وإن كانت برعاية أممية؛ فقد أكد مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، أن نظام الأسد مسؤول عن ارتكاب المجازر، وأنه استخدم غاز الكلورين في 9 مايو في هجوم على إدلب، وهو “تحت الأضواء” لاستخدامه الأسلحة الكيميائية، ويعتمد على شبكات دعم غير مشروعة للبقاء في السلطة، وأن الولايات المتحدة ستواصل الضغط على “النظام الخبيث”، خاصة بسبب العلاقات التي تربطه بالنظام الإيراني. هذا عدا ملف العقوبات على النظام السوري، والتي تنتظر توقيع الرئيس ترامب، وأهمها “قانون سيزار” و”قانون محاسبة الأسد”.
وفي التوقيت نفسه، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية عن عقوبات على ثلاثة أفراد وخمس سفن شحن وشركة وهمية مقرها موسكو، شاركت في نقل الأموال والوقود إلى القوات الروسية التي تدعم نظام الأسد.
ومنذ أيام، أصدر “معهد السلام الأميركي”، عبر المجموعة الخاصة بسوريا، وبطلب من الكونغرس، توصيات حول السياسة الأميركية في سوريا، تصوب الاستراتيجية الأميركية المترنحة بين الانسحاب من سوريا والشرق الأوسط وضرورة حماية المصالح الأميركية.
حيث وجد التقرير أن الانسحاب دون تحقيق انتقال سياسي سيقوّي عودة داعش في سوريا والعراق، ويوسّع النفوذ الإيراني إلى شرق الفرات، ويساهم في فتح ممر إيراني عبر العراق وسوريا إلى لبنان.
وجدت الولايات المتحدة نفسها في مأزق متعدد الجوانب حيال دورها الممكن في تغيير مجرى الصراع في سوريا باتجاه حل يحقق مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة.
فأولاً؛ كانت واشنطن تخشى من انتقال فوضى الاحتجاجات والحرب المرافقة لها إلى دول الجوار، بحيث تصعب السيطرة عليها، وهي تريد حماية مصالحها في العراق، ومصالح حلفائها في الخليج العربي، ومصلحة إسرائيل وأمنها.
وثانياً؛ تعوّل واشنطن على قوات سوريا الديمقراطية لمحاربة داعش ومنع عودتها، وبالتالي هي مضطرة لإبقاء التحالف معها، حتى التوصل إلى حل سياسي. والمشكلة أن قوات سوريا الديمقراطية وعبر مجلسها المدني، عجزت عن فرض نفسها كقوة صالحة للحكم، وما زالت حدة التوترات تتصاعد مع القبائل العربية، نتيجة سياسات التمييز والانتهاكات التي تقوم بها الوحدات الكردية في مناطق سيطرتها.
ثالثاً؛ الأزمة السورية تسببت بتوترات عميقة مع الحليف التركي، ما أدى إلى تقاربه مع روسيا، عبر تحالفات أستانة، واتفاقات خفض التصعيد والمصالحة، وصولاً إلى إتمام صفقة أس-400، والتلويح بإمكانية شراء طائرات السوخوي الروسية. في حين فشلت المحاولات الأميركية لإقناع تركيا بآلية أمنية بدلاً من المنطقة الأمنية العريضة التي تريد أنقرة خلوها من وحدات الحماية الكردية وسلاحها، وأن تكون تحت سيطرتها.
وتعيق الولايات المتحدة المضي بمنطقة آمنة، ترضي الأتراك بعد فشلهم في إدارة مناطق “عفرين” و”درع الفرات”، واستمرار انتهاكات الفصائل المرتبطة بها بحق السكان، وعدم تقديم سياسة تنموية تحقق الاستقرار.
إضافة إلى استمرار الحشد التركي على الحدود السورية، والتهديدات بشن هجوم على شرق الفرات، الأمر الذي يدفع الولايات المتحدة إلى المزيد من الدعم المالي والتسليح لقوات سوريا الديمقراطية لردع التدخل التركي، ما يعني المزيد من الانهماك الأميركي في الملف السوري، الأمر الذي سيؤثر أكثر على العلاقات الأميركية التركية خارج سوريا، خاصة شراكتهما في حلف شمال الأطلسي، واتفاقيات الدفاع المشترك، التي تتعرض لهزّات كبيرة، مع استمرار حصول أنقرة على منظومات ردع روسية.
رابعاً؛ التوغل الإيراني، العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، في سوريا، والذي يبدو للولايات المتحدة أن المنافسة الروسية – الإيرانية ضمن دوائر النظام لم تصل إلى درجة حسم موسكو موقفها باتجاه منع التوغل الإيراني، ويبدو أنه ورقة بيد روسيا للضغط على أميركا لتقديم التنازلات في ما يتعلق بالموقف من النظام وسحب العقوبات وعودة العلاقات الدولية والإقليمية معه.
خامساً؛ تواجد فصائل تابعة لتنظيم القاعدة في سوريا، وترك حسمها رهناً للتوافقات التركية الروسية، ما يزيد فرصة تناميها، خاصة أن هيئة تحرير الشام – جبهة النصرة المسيطرة على إدلب، والتي شكلت حكومة إنقاذ تابعة لها، تضمّ في صفوفها جهاديين أجانب، ولم تتخلّ عن الفكر الجهادي. وقد قام التحالف بضرب مقر لتنظيم حراس الدين في إدلب، في رسالة عن نية للتدخل وإنهاء هذه التنظيمات، قبل أن تتحول المنطقة إلى أفغانستان جديدة.
تواجه واشنطن طهرانَ في سوريا عبر دعمها للضربات الإسرائيلية التي تحدّ من تجذّر القواعد والمقرات العسكرية لإيران وحلفائها في سوريا، وعبر استمرارها بسياسة العقوبات على نظام الأسد وإيران ومن يدعمهما. لكن هذا غير كافٍ لردع إيران، كما أن الصراع ينبئ بإمكانية اندلاع حرب إيرانية – إسرائيلية في الجولان لا تريدها واشنطن.
رغم تخبط الاستراتيجية الأميركية في سوريا، بين الانسحاب والمخاوف من فقدان السيطرة على المنطقة، ومن انتقال التوتر إلى بلدان أخرى، تبدو الولايات المتحدة غير مستعجلة على فرض حلّ سياسي وفق مقررات جنيف1، وهي ما زالت تنتهج سياسة وضع العصي في عجلة المحاولات الروسية لتمرير ملفات تتعلق بعودة الاعتراف بالنظام والتطبيع معه، خاصة في ما يتعلق بتمويل إعادة الإعمار. فيما تشكل المساعي الإسرائيلية للتقريب بين الروس والأميركيين باتجاه حل وسط، بطرد الميليشيات الإيرانية، والقبول بإعادة الإعمار وعودة اللاجئين في ظل نظام الأسد، بوابة لحل يحقق المصالح الإسرائيلية بإبعاد ميليشيات إيران عن حدودها مع سوريا ولبنان أولاً، وتقليص الدور التركي “الأردوغاني” في سوريا، غير المحبب لإسرائيل.
رانيا مصطفى – كاتبة سورية – صحيفة العرب
المقالة تعبر عن رأي الكاتبة والصحيفة