في ظل المتغيرات والخلفيات الايجابية للعلاقات العراقية – السورية تبدو الظروف مهيأة أكثر من أي وقت مضى لمجيء الأسد إلى بغداد وهو ما تتحدث عنه أوساط ومحافل عراقية رسمية وغير رسمية.
فتح صفحة جديدة
في شهر مارس من عام 2019، أي قبل أكثر من أربعة أعوام بقليل، تحركت بعض الأطراف والشخصيات السياسية العراقية لترتيب زيارة رسمية للرئيس السوري بشار الأسد إلى العراق، في إطار دعم بغداد لدمشق، ومساعي الأولى لمساعدة الأخيرة على استعادة دورها وحضورها بعد أعوام من الفوضى والاضطراب الأمني والسياسي الذي أوجدته ووسعته أجندات ومشاريع ومخططات دولية وإقليمية تحت يافطة ما أطلق عليه بـ”ثورات الربيع العربي”.
وبينما كان هناك فريق في بغداد متحمس جدا لتحقيق الزيارة، انطلاقا من قراءة صحيحة، ترتبط بأهمية تقوية وتعزيز محور المقاومة، فإن هناك فريقا آخر، كانت له رؤية مختلفة، مفادها أن الظروف الإقليمية وطبيعة التجاذبات والتقاطعات بين بعض الفرقاء الإقليميين، غير مناسبة لمثل تلك الزيارة، وأكثر من ذلك، فإنها فيما لو تمت قد لا تصب في صالح الحراك السياسي والدبلوماسي العراقي الهادئ الذي لاحت بوادره وملامحه الأولى في عهد رئيس الوزراء الأسبق عادل عبدالمهدي (2018 – 2019).
ولاشك أن كلتا الرؤيتين كانتا صحيحتين، ولكن من زوايا مختلفة، وقيل في وقتها إن البحث والنقاش في دمشق حول الزيارة كان قريبا نوعا ما من حيث الجوهر والمضمون من البحث والنقاش في بغداد، بل وحتى في طهران المعنية والمهتمة إلى حد كبير بالملفات العراقية والسورية، كانت هناك أكثر من وجهة نظر بشأن ذهاب الأسد إلى بغداد في ذلك الوقت.
الظروف تبدو مهيأة أكثر من أي وقت مضى لمجيء الأسد إلى بغداد، وهو ما تتحدث عنه وتتداوله أوساط ومحافل رسمية وغير رسمية عراقية
وفي نهاية المطاف، رجحت كفة الرؤية القائلة بوجوب إرجاء الزيارة إلى وقت آخر، أو بتعبير أدق حتى تنفرج بعض الأزمات وتتحلحل بعض العقد، وبالتالي تكون الأرضيات مهيأة لها، والمخرجات يعوّل عليها، بحيث بدلا من أن تزيد الزيارة المفترضة الأمور سوءا وتعقيدا، فإنها يفترض أن تحدث تقدما وانفراجا. وإضافة إلى الحسابات السياسية المعقدة، فإن جائحة كورونا التي اجتاحت العالم مطلع عام 2020، ساهمت بقدر أو بآخر في وضع ملف الزيارة على الرف لبعض الوقت.
وبعد مرور أربعة أعوام، فإن صورة المشهد الإقليمي العام قد تغيرت وتبدلت الكثير من ملامحها ومعالمها وألوانها، وما لم يكن ممكنا ومتاحا وخارج نطاق الافتراضات والتوقعات، بات اليوم ضمن إطار الحقائق والمعطيات المتحركة على أرض الواقع.
ولعل زيارة وزير الخارجية السوري إلى بغداد مطلع شهر يونيو الجاري، جاءت في سياق الواقع الإقليمي الجديد، الذي بلورته جملة مصاديق، منها:
– عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية بعد اثني عشر عاما من تعليق عضويتها لأسباب وحسابات وأجندات سياسية معينة، وتكللت هذه العودة عبر دعوة رسمية وجهت للرئيس السوري بشار الأسد من قبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للمشاركة في القمة العربية الثانية والثلاثين التي عقدت بمدينة جدة السعودية في التاسع عشر من شهر مايو الماضي.
– استئناف العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية بعد قطيعة كاملة دامت سبعة أعوام، من خلال اتفاق مهدت له وبلورته على مدى أكثر من عامين أطراف عديدة أبرزها العراق وعمان، ورعته وهيأت له الصين. وطبيعي أن عودة المياه إلى مجاريها بين اثنين من أكثر الأطراف تأثيرا في المنطقة، يعني الشيء الكثير، لاسيما إذا عرفنا أنهما – أي إيران والسعودية – معنيتان بصورة ربما تكون مباشرة بملفات المنطقة الشائكة، وأن الانطباع والتصور العام السائد هو أنه ما دامت الخلافات والتقاطعات والخصومات قائمة بين طهران والرياض، فمن الصعب جدا فك عقد الأزمات في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، والعكس صحيح.
– التنامي والتزايد الواضح والملموس في الحراك السياسي والدبلوماسي العراقي في الساحة الإقليمية باتجاه تطويق واحتواء أزمات المنطقة وحلحلة مشاكلها المستعصية، والبحث عن مسارات للتهدئة، وتقريب وجهات النظر والمواقف بين الفرقاء والخصوم، بحيث تحوّل العراق من بؤرة للمشاكل والأزمات وساحة للفوضى والاضطراب الداخلية إلى مصدر للحلول والمعالجات ومحطة للتقارب والتلاقي بين الخصوم والفرقاء.
– الاتجاه العام لدى مختلف الأطراف المتخاصمة نحو التوافقات والتفاهمات البناءة وفق قاعدة المصالح المتبادلة والقواسم المشتركة، والابتعاد عن مواضع التأزيم والتصعيد والتعقيد، ومعظم الحراك بين عواصم المنطقة خلال هذا العام والعام الماضي يعد مصداقا لذلك. بعبارة أخرى إن كل الأطراف تقريبا، توصلت إلى قناعة مفادها، أهمية مغادرة خيار الصدام والصراع والتشبث بخيار التفاهم والحوار.
يدرك الجانبان العراقي والسوري، أهمية الانتقال والتقدم خطوات أخرى إلى الأمام، فبعد تجاوز خطر الإرهاب وإفشال أجندات التخريب والتدمير.. باتت الظروف والأجواء مهيأة تماما لتفعيل العلاقات الاقتصادية بين بغداد ودمشق
والتدقيق في المصاديق المشار إليها، يؤشر إلى أن هناك تداخلا كبيرا في الملفات التي تهم بغداد ودمشق، وأن أي مسار إيجابي بالنسبة إلى أي منهما لا بد أن ينعكس إيجابيا على الطرف الآخر، وهو ما تحدث فيه بإسهاب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد ونظيره العراقي فؤاد حسين خلال المؤتمر الصحافي المشترك لهما في بغداد، فضلا عن مجمل ما دار في لقاءات الوزير المقداد مع كبار الساسة والمسؤولين العراقيين.
ومثلما كانت العلاقات على الصعيدين الشعبي والسياسي جيدة بين العراق وسوريا، في مختلف المراحل، بعيدا عن التجاذبات والخلافات بين نظامي الحكم، خصوصا حينما احتضنت سوريا أعدادا كبيرة من العراقيين الفارين من قمع نظام صدام في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وكذلك بعد سقوط ذلك النظام، بفعل الإرهاب التكفيري، فإن البلدين تأثرا كثيرا على مدى العقدين الأخيرين بالخلافات والتقاطعات والتجاذبات والتدخلات الإقليمية والدولية، وتجلى ذلك بظهور الجماعات والتنظيمات الإرهابية التكفيرية، كالقاعدة وداعش، والاضطرابات السياسية الداخلية، والمشاكل والأزمات الاقتصادية، ناهيك عن التلكؤ والضعف الكبير في عموم الخدمات الأساسية المتعلقة بشؤون واحتياجات المواطنين اليومية.
وكانت التداعيات والارتباكات الأمنية والسياسية في العراق وسوريا، قد ارتبطت على طول الخط بأوضاع وظروف المنطقة وطبيعة الحراك بملفاتها الساخنة ومستوى التأزم والتأزيم بين بعض أطرافها، في ذات الوقت فإن التعاون والتواصل والتنسيق فيما بينهما، لاسيما على صعيد محاربة الجماعات الإرهابية، أثمر عن نتائج إيجابية، تجلت بنجاح الطرفين في إفشال الأجندات والمشاريع الخارجية التي أريد من ورائها إغراقهما في الفتن والصراعات الطائفية والمذهبية، ناهيك عن محاولات دفعهما إلى مسارات التطبيع مع الكيان الصهيوني.
ويتفق الكثيرون على أن التعاون والتنسيق في محاربة الإرهاب، والوصول إلى مخرجات جيدة في هذا الملف، فتحا آفاقا واسعة ورحبة لتعزيز العلاقات بين الجانبين، فضلا عن بناء تحالفات إستراتيجية رصينة مع قوى إقليمية وعالمية كبرى، مثل إيران وروسيا والصين، إلى جانب توسيع مساحات حضور وتأثير محور المقاومة في مجمل معادلات الميدان. ولعل هذا ما أشار إليه الوزير المقداد من بغداد بقوله، “ناقشنا الجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب، فما يؤذي سوريا يؤذي العراق والعكس صحيح.. وإن فرض الغرب إجراءات اقتصادية قسرية ليس الأسلوب المناسب للعلاقات بين الدول، وهذه الإجراءات فاقمت معاناة الشعب السوري ويجب رفعها، وان وجود سوريا في إطار مؤسسات الجامعة العربية سيعزز ثقل العمل العربي، ويعطي أملاً متجدداً للشعوب بأننا يد واحدة لمواجهة كل ما نتعرض له”.
مما لا شك فيه أن فترات مواجهة الإرهاب والاضطراب السياسي والمشكلات مع الخارج، قد عطلت وضيّعت الكثير من فرص تنمية العلاقات العراقية – السورية بجوانبها المختلفة
فضلا عن ذلك فإن الرئيس السوري بشار الأسد، كان قد أكد في لقاءات له مع شخصيات سياسية وحكومية عراقية زارت دمشق خلال الشهور القلائل الماضية، من بينها رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي فائق زيدان، ورئيس تيار الحكمة عمار الحكيم، ورئيس أركان هيئة الحشد الشعبي عبدالعزيز المحمداوي (أبوفدك)، فضلا عن لقائه وزير الخارجية فؤاد حسين في مدينة جدّة السعودية، أكد أن “دور العراق السياسي والاقتصادي في المنطقة هو دور جوهري نظرا للوزن الذي يتمتع به هذا البلد تاريخيا وجغرافيا، ونظرا لمكانة العراق على الساحة الإقليمية، وأن سوريا تنظر إلى العراق كتوأم وليس كبلد شقيق فقط”.
ويدرك الجانبان العراقي والسوري، أهمية الانتقال والتقدم خطوات أخرى إلى الأمام، فبعد تجاوز خطر الإرهاب وإفشال أجندات التخريب والتدمير، وبعد الانفتاح العربي مجددا على سوريا، وحلحلة مجمل ملفات المنطقة الشائكة، والتفاهمات والتوافقات البناءة بين الفرقاء والخصوم، باتت الظروف والأجواء مهيأة تماما لتفعيل العلاقات الاقتصادية بين بغداد ودمشق، وبما يسهم في التخفيف من حدة الضغوطات والتحديات الكبيرة التي تواجههما على هذا الصعيد، لاسيما سوريا.
وكان ملف التعاون والتنسيق الاقتصادي أحد أبرز الملفات التي طرحت على طاولة المباحثات بين وزير الخارجية السوري والمسؤولين العراقيين، علما أنه كان هناك حراك إيجابي ملموس في هذا الشأن. ففي مطلع شهر مايو الماضي زار وزير التجارة العراقي أثير الغريري دمشق على رأس وفد حكومي رفيع المستوى للمشاركة في أعمال الدورة الحادية عشرة للجنة المشتركة العراقية – السورية، بعد أن كانت اللجنة المذكورة قد عقدت دورتها العاشرة في بغداد في شهر مارس الماضي. وقد شهدت الدورتان نقاشات معمقة من أجل تعزيز وتطوير التعاون في ميادين التجارة والاستثمار والثقافة والسياحة والإعلام والتربية والتعليم والرياضة والشباب، فضلا عن إبرام ست مذكرات تفاهم في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار والأشغال العامة والإسكان والتربية والتعليم العالي والبحث العلمي والإعلام، إضافة إلى بروتوكولين تنفيذيين في مجالي الثقافة والسياحة.
ومما لا شك فيه أن فترات مواجهة الإرهاب والاضطراب السياسي والمشكلات مع الخارج، قد عطلت وضيّعت الكثير من فرص تنمية العلاقات العراقية – السورية بجوانبها المختلفة، إلا أنها لم تمنع تواصل الجهود من الطرفين لتحويل التحديات والتهديدات إلى فرص لتعويض الخسائر وتحقيق المكاسب.
واليوم فإنه في ظل هذه المتغيرات الواضحة، والخلفيات الإيجابية للعلاقات العراقية – السورية، فإن الظروف تبدو مهيأة أكثر من أي وقت مضى لمجيء الأسد إلى بغداد، وهو ما تتحدث عنه وتتداوله أوساط ومحافل رسمية وغير رسمية عراقية، لاسيما وأنه – أي الأسد – ذهب قبل ذلك إلى طهران وموسكو وأبوظبي وجدّة، ومن غير المستبعد أن يذهب مستقبلا إلى أنقرة وعواصم أخرى.
عادل الجبوري – كاتب وصحفي عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة