تأسست اللجنة الدستورية بعد مؤتمر عقد في “سوتشي” دعت إليه روسيا تحت عنوان ما عرف بـ (مؤتمر الحوار الوطني) في 31/1/2018 وصدر قرار تشكيلها رسميا بعد سنة وتسعة أشهر بتاريخ 23/9/2019، وحدث أول اجتماع لها بتاريخ 31/10/2019، وعقدت خمس جولات سابقة على الجولة الأخيرة كانت محصلتها صفرية.
ليس صعبا اكتشاف أن الغاية الروسية من تشكيل تلك اللجنة وفرضها على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، كانت للإيحاء بأن الروس جادون في الحل السياسي للقضية السورية بينما هم كانوا يحققون تقدماً بطيئاً عسكرياً على الارض وإنشاء مسار أستانة العسكري الموازي لذلك التقدم ولمنع الاشتباك المباشر بين أطرافه الثلاثة على الأرض، ولاشك أنهم كانوا يعولون على حسم عسكري يضع المجتمع الدولي أمام أمر واقع يتيح ترجمة وتطبيق الحل الروسي على الأرض بإعادة تعويم النظام وتفسير مجلس الحكم الانتقالي الذي ينص عليه القرار الدولي 2245 كأول خطوة من خطوات الحل السياسي، يتبعه كتابة دستور جديد وإجراء انتخابات على أساسه خلال المرحلة الانتقالية التي حددت بـ 18 شهراً، كان الروس يحاولون اجهاض ذلك بفرض حكومة وحدة وطنية يشترك فيها طرفي الصراع.
لم يتأخر الأمريكان والأتراك بكشف النوايا الروسية فأنجزوا تموضعهم شمال سورية ووضعوا خطوطاً حمراء لإجهاض أي مسعى روسي لابتلاع الجغرافيا السورية.
لم تحظ اللجنة الدستورية بأي تأييد شعبي من طرف جمهور الثورة السورية، الذي اعتبرها التفافاً، بل تقويضاً للقرار الدولي وأنها منتج روسي تم فرضه على مسار الحل السياسي وأن مشكلة الشعب السوري ليست مشكلة دستورية، على الجانب الآخر لم يعترف بها النظام كإحدى أدوات الحل تحت دعاوى واهية عديدة، أهمها أن الدستور شأن سيادي سوري يكتبه سوريون في سورية.
طبعا لابد من الإشارة إلى أن السوريين بذاكرتهم الجمعية يختزنون أكثر من غيرهم من الشعوب ذكرى ليست جيدة عن الدستور، أولاها تشكلت عبر مسرحية غربة للراحل الماغوط وكيف كان المختار يعطل الدستور، بل إن ذلك الدستور أكله الحمار، وثانيها قضية تعديل الفقرة من الدستور السوري التي تبيح أن يتولى رئاسة الجمهورية من هو دون الأربعين من العمر، جرى ذلك عام 2000 بعد موت الأسد الأب، لتفصيل الدستور على مقاس ابنه، تم ذلك خلال 10 دقائق فقط.
وليس بعيداً أن يكون النظام قد وضع دستور 2012 تحت ضغط الثورة الشعبية التي طالبت ببداية انطلاقتها بإلغاء المادة الثامنة التي تنص على أن حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع، تم إلغاؤها وقتل النظام بعد إقرار ذلك الدستور مليون سوري واستعمل ضدهم كل أدوات القتل بما فيها الأسلحة الكيماوية.
لا يعترف النظام السوري بأن وفده الذي أرسله للمرة السادسة إلى جنيف، وفد حكومي يمثله بل وفد وطني مقرب من الحكومة لا يلزمه تبني أية طروحات أو آراء خاصة به، كما أن قسماً من جمهور الثورة الذي لا يرى بأساً من الاستمرار بأعمال اللجنة الدستورية وعدم الانسحاب منها بل تقويتها بإطار وطني، فتلك اللجنة هي إحدى مفردات الحل السياسي وليست الحل نفسه، وإن البدء بها لا يلغي حتماً الفقرة الأولى وهي تشكيل الهيئة الانتقالية ذات الصلاحيات الحقيقية، وانما كما يرون إبقاء العملية السياسية في غرفة العناية المشددة والتي يجهد النظام لوأدها وتقديم (فيما لو تم انسحاب المعارضة) منها أن لا شريك سوري يقابله لتحقيق الحل السياسي.
لماذا حظيت اجتماعات الدورة السادسة باهتمام دولي؟
يبدو واضحاً أن كلا اللاعبين الدوليين مصران على الإسراع بالحل السياسي وليس متاح الآن إلا اللجنة الدستورية.
الولايات المتحدة الامريكية التي اتخذت قراراً استراتيجياً بالانسحاب من المنطقة، يبدو أنها مستعجلة طالما لها وجود عسكري على الارض وحلفاء حاربوا معها تسعى لدمجهم بمسار جنيف بعد تنقيتهم من الشوائب والحشرات الضارة القنديلية، ولفرض ذلك التوجه فإنها مستعجلة لوضع الحل على السكة والبدء بخطوة طريق الألف ميل، وقد بان الاهتمام الامريكي باجتماعات اللجنة الأخيرة بجنيف حيث تابعها مسؤولون رفيعو المستوى مثل المندوب الأمريكي المعين حديثاً مشرفاً على الملف السوري ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي وغيرهم.
أما الروس، الذين يحاولون عدم الوقوع بمستنقع له ألف وليس له ياء، فقد دخلوا فعلياً بمرحلة ما بعد الحرب في سورية ويحاولون تحصين مكاسبهم العسكرية والاقتصادية بحل سياسي والشروع بجني منافع اقتصادية عبر تحفز الشركات الروسية للاستيلاء على حصة الأسد من مردود مشاريع إعادة الإعمار وعودة اللاجئين. بعد وصول الروس إلى يقين أنه لابد لهم من الشريك الدولي لصياغة الحل وعدم قدرتهم على ذلك بأنفسهم.
لا شك أنه بعد انقطاع اجتماعات اللجنة الدستورية منذ بداية العام الحالي، ويقال إن تحديد عقد اجتماعات الجولة السادسة وموافقة النظام على استقبال المبعوث الأممي بدمشق لمناقشة الجوانب التقنية تم أثناء استدعاء بوتين لرأس النظام السوري إلى موسكو والطلب منه ذلك، بعد تلك الزيارة جاء السيد بيدرسون إلى دمشق وتم تحديد موعد انطلاق أعمال الجولة السادسة، وكان الموفد الرئاسي الروسي لافرنتيف قد زار دمشق قبل انطلاق اجتماعات جنيف وطلب شخصياً من النظام السوري إبداء مرونة في مواقفه لإنجاح عمل اللجنة ولو جزئياً.
كيف أفشل النظام الاجتماع؟
سادت أجواء مختلفة عن الجولات السابقة في أول يومين، تجسدت بلقاء وجها لوجه بين رئيسي وفد المعارضة ووفد النظام بحضور السيد بيدرسون واعتبر هذا سابقة. كما سادت لغة بصحافة النظام وعلى لسان وفده بجنيف بوصف وفد المعارضة باسمه دون الحديث عن وفد الطرف الآخر أو ما شابه ذلك من الأوصاف.
اتهم الروس عبر مستشارهم عمار الشاعر بحديث للشرق الأوسط النظام بإفشال اجتماعات الجولة السادسة، أولاً عبر عدم قبوله مناقشة تعديلات مسودته التي قدمها لوفدي المعارضة وكتلة المجتمع المدني وقال الشاعر: إنه يملك معلومات عن تعليمات صدرت من دمشق للوفد تمنعه من التوقيع على أي ورقة أو ما شابه. واتهم الشاعر النظام بتعمد قصف المدنيين في أريحا وارتكاب مجزرة (لإضعاف موقف وفد المعارضة أمام جمهورها ودفعها للانسحاب) وأيضا تدبيره لانفجار الحافلة بدمشق واتهام تنظيمات إسلامية بذلك، للإيهام بأنه يعاني من الإرهاب وأنه غير مستعد للبحث إلا بملف مكافحة الإرهاب.
حتى أن لافرنتيف نفسه لم يتهم وفد المعارضة بإفشال اجتماعات الجولة السادسة (كعادته بالجولات السابقة) بل ترك الأمر مفتوحاً لمن يريد الاتهام وكانت إصبعه تشير إلى وفد النظام.
أشار المبعوث الأممي في إحاطته الأخيرة في مجلس الأمن ضمناً إلى أن النظام من أفشلها وطالب بوقف الاعتداءات على المدنيين، وهي أقوى إشارة من المبعوث الأممي على تحميل النظام مسؤولية عرقلة الحل السياسي واعتماده على الخيار العسكري كخيار وحيد.
يرى بعضهم أن النظام السوري بتركيبته الإيرانية لا يرى في التدخل الروسي إلا ذراعه العسكري الوحشي والدفاع عنه في المحافل الدولية لقاء مكاسب استراتيجية حققها بتدخله في سورية، ولا يرى أن من حقه التدخل بملفات الحل السوري الذي تعمد إيران إلى الإمساك بأدواتها والمساومة عليها دولياً وإبقاءها بيدها وسحب تلك الورقة من أيدي الروس، التي تراهم أمام أعينها يعقدون التحالفات والتفاهمات مع الأمريكان والإسرائيليين والأتراك. وكل ذلك بالتأكيد على حسابها.
لذلك يمكنني القول إن تعاون الضرورة الذي فرضته المرحلة السابقة بين روسيا من جهة والنظام وإيران من جهة اخرى قد أوشك على الوصول إلى محطته ما قبل الأخيرة وقد يكون فشل اجتماعات الجولة السادسة للجنة الدستورية هي القشة التي ستقصم ظهر البعير.
د. باسل معراوي – كاتب سياسي – نينار بريس
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والموقع