من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الحرب الباردة، التزمت إدارات البيت الأبيض المتعاقبة، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، على منهجية استراتيجية موحدة في العلاقة مع موسكو السوفياتية. ومع تبدل الرؤساء استمرت سياسة الحزبين موحدة في المضمون، مختلفة جزئيا في شكل تعاطيها مع موسكو. فقد أدى الصراع العقائدي بين المعسكرين الغربي والشرقي ومتطلبات الحرب البادرة، إلى توحد النخب السياسية الأميركية بشقيها الجمهوري والديمقراطي في مواجهة الخطر السوفياتي.
بالنسبة لصنّاع القرار في الكرملين التوافق بين نخب الحزبين سيعود إلى الواجهة في ما يخص الموقف من روسيا. واستثمار موسكو في التباين ما بين إدارة الرئيس ترامب والكونغرس، وتأثيره السلبي على الدبلوماسية الأميركية، سيتراجع في عهد بايدن لصالح توافقات محتملة بين مكتب الأمن القومي في البيت الأبيض ولجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، ووزارة الخارجية الأميركية، بعد إعادة توحيد صفوف مؤسسات الدولة الأميركية وأجهزتها وتحريرها من سلطة البيت الأبيض.
على مدى 12 عاما من إدارتي باراك أوباما ودونالد ترامب للبيت الأبيض، وتقييد عمل مؤسسات الدولة، استفاد الكرملين من انكفاء الأول الذي سهل عودة موسكو إلى الساحة العالمية، واستعادتها هيبة الدولة الكبرى، أما الثاني فقد خاض مع الاتحاد الأوروبي حروبا متعددة اقتصادية استراتيجية وسياسية، كادت أن تكشف الأوروبيين أمام الروس، خصوصا في قضية الناتو والتزامات الولايات المتحدة في الدفاع عن شركائها أمام مشاريع النفوذ الروسية ما بعد البلطيق ووسط أوروبا. ففي السنوات الأربع الماضية، تعرضت بروكسيل لنيران صديقة أثرت على العلاقات التاريخية بين ضفتي الأطلسي.
كما أن فوز جو بايدن ورحيل ترامب يعتبر خسارة للمشروع الروسي الذي كان يراهن على صعود الشعبوية والقومية في أوروبا المتأثرة بظاهرة ترامب، والتي قد تؤدي إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي وصعود يمين أكثر قربا من موسكو، التي تخوض منذ سنوات حربا فكرية ضد ما تسميه القيم الليبرالية الغربية، التي تعتبر أنها لم تعد صالحة مجتمعيا، بعدما عفا عليها الزمن.
عمليا، من شأن فوز بايدن أن يعالج شوائب أصابت علاقة واشنطن بحلفائها الأوروبيين، وهذا سيؤدي حتما إلى قطع الطريق على بعض الأوروبيين من دعاة التطبيع مع موسكو كردة فعل على سياسات ترامب، الذي اعتبر أن الاتحاد الأوروبي أسوأ من الصين. فعلى الأرجح أن الإدارة الأميركية الجديدة ستعمل على استعادة الثقة عبر الأطلسي، والتوصل إلى حلول عادلة في قضايا اقتصادية عالقة، والاعتماد على مقاربة مرنة في كثير من القضايا الدولية المشتركة، الأمر الذي سيحد بشدة من مساحة موسكو للمناورة في سياستها تجاه الاتحاد الأوروبي وعلى الساحة الدولية.
أزمة الكرملين مع نتائج الانتخابات الأميركية تتصاعد. فحتى الآن لم يقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تهنئة الرئيس الفائز، وقد برر المتحدث باسمه ديميتري بيسكوف صمت الكرملين حتى الآن، بأن “هناك حاليا نزاعا قانونيا حول النتائج،” مع العلم أن بوتين هنأ ترامب بعد أقل من 12 ساعة على انتخابه سنة 2016.
الجدير ذكره أن وكالة نوفوستي نقلت عن بيسكوف قوله “إن أي ارتباك في عملية فرز الأصوات الطويلة في الانتخابات الأميركية في أكبر اقتصاد عالمي، سوف يكون له تأثير سلبي محتمل في الشؤون الدولية، وبالدرجة الأولى في الاقتصاد لعالمي، ولا يدري أحد كم سيدوم هذا الارتباك، وكم سيكون تأثيره قوياً”. وبالفعل مجرد إعلان فوز بايدن أدى إلى هبوط سعر الروبل الذي وصل إلى 87 روبل أمام الدولار الواحد.
ليس مستبعدا أن تعتمد الإدارة الأميركية الجديدة أسلوبا متشددا في التعامل مع سلوك روسيا الداخلي والخارجي، وخصوصا حيال جوارها، وإعادة فتح لسجلها في مجال حقوق الإنسان. في عام 2018 ، نشر بايدن مقالاً في مجلة الشؤون الخارجية بعنوان ” كيفية الوقوف في وجه الكرملين.. الدفاع عن الديمقراطية ضد أعدائها”، حيث دعا إلى تشديد العقوبات ضد روسيا، وتعزيز القوة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، وتعزيز الديمقراطية بنشاط، والدفاع عن حق الدول ذات السيادة في” اختيار تحالفاتها الدفاعية”. ورفض القول بأن أي قوة لها “مجال مصالح”.
مما لا شك فيه أن الكيمياء مفقودة تماما بين بوتين وبايدن، على عكس سلفه ترامب، وهذا ما سيترك آثارا بالغة على العلاقة ما بين الرئيسين، خصوصا وأن بوتين يتذكر أن “الرئيس الأميركي الجديد” وقف ضد عودته إلى رئاسة روسيا سنة 2012.
في السنوات الأخيرة، امتلأت الذاكرة الروسية بمواقف عديدة لنائب الرئيس الأميركي جو بايدن، لا يمكن تجاوزها، خصوصا ما قاله لبوتين أثناء زيارته لموسكو سنة 2011 “إنني أنظر في عينيك ولا أعتقد أن لديك روحا”.
مواقف بايدن المتشددة حيال روسيا، خصوصا بعد أزمة القرم، حولته إلى عدو الكرملين الأول.
مصطفى فحص- الحرة
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة