سيطرة طالبان على أفغانستان تعني نقل منطقة التوتر الأشد سخونة من الشرق الأوسط إلى وسط آسيا، مع الحفاظ على كم من التوترات في العالم العربي بما يحقق بعض المصالح الاستراتيجية الكبرى.
الانسحاب يندرج ضمن رؤية استراتيجية بعيدة
من المشاهد التي وقفت عندها كثيرا في شوارع القاهرة في ثمانينات القرن الماضي، حين كنت أجوبها متنقلا من مكتبة دار الكتب المصرية إلى مكتبة مخطوطات الأزهر، إلى الجامعة الأميركية، وفي المساء مكتبة الجمعية التاريخية، مشهد “البهاليل” الذين يتخذ الواحد منهم منطقة معينة مملكة له، ومنهم من كان يرتدي بدلة جنرال عسكري بالية متسخة من النوم فيها لشهور، ويضع “الكاب” على رأسه، ويقف وسط الشارع بين الأزهر والحسين ينظم المرور، وفي فمه صفارة يطلق منها صفرات طويلة من حين إلى آخر، ظانا أنه يدير حركة الشارع المزدحم، ويتحكم في الراكبين وما له بينهم ركوبة، ويعيش نشوة ممارسة السلطة؛ لأن الشارع غاية في الازدحام، عندما يأمر السيارات بالتوقف قد تتوقف بفعل الزحام وليس طاعة للقرار، ولكن في كل الأحوال ما يهمنا هو تصورات ذلك الجنرال البهلول لنفسه ولقوته وسلطانه.
هذا المشهد يلخص كل ما أنتجته الحركات والجماعات المهووسة بإعادة تمثيل التاريخ على مسرح العصر، والعيش في دور البطولة، وهم صعاليك لا وزن لهم، ولا خبرة عندهم، ولا أخلاق تضبط سلوكهم فتدفعهم للتواضع، ومعرفة أقدار المواقف، وأوزان البشر. فمنذ أن غرس في عقولهم مؤسس حركة الإخوان، ذلك الشاب الغض الذي كان يجيد الخطابة، فكرة أستاذية العالم، أصبح كل منتسب للجماعات المسكونة بالسلطة دون إعداد والسياسة دون فهم، يظن في نفسه القدرة على إدارة شؤون العالم، وهو في الحقيقة فاشل في إدارة شؤون بيته. ومن يعرف عناصر الإخوان عن قرب يدرك هذه الحقيقة المرة. وعلى خطى الإخوان سارت الجماعات التي ألقت بنفسها في بحر السياسة دون أدنى فكرة عن فنون السباحة ومهارات العوم.
ومن بين هؤلاء البهاليل والدراويش المقتحمين لعالم السياسة حركة طالبان، أو حركة الطلاب الفاشلين الذين مازالوا طلابا رغم أنهم قد بلغوا من الكبر عتيا. هؤلاء جميعا يعرفون جيدا ما لا يريدون، ولكنهم لا يعرفون ما يريدون. أجنداتهم واضحة في كل ما يتعلق بالأشياء والموضوعات والمجالات التي يريدون تدميرها وتفكيكها والقضاء عليها، ولكن لا يعرفون شيئا عن أي مجال أو موضوع يريدون تأسيسه وبناءه وتحقيقه في الواقع.. فقط يرددون شعارات من مثل تأسيس الدولة الإسلامية، وإذا سألتهم ما هي الدولة الإسلامية؟ وما هي مؤسساتها؟ وكيف تعمل هذه المؤسسات؟ فسوف يردون عليك بلسان الحسن الماوردي المتوفى 450 هجرية 1058 ميلادية. هؤلاء جميعا من إخوان مصر، إلى نهضة تونس، وصولا إلى طالبان مرورا بكيزان السودان، وأفّاقي ليبيا، وانتهازيي سوريا، وخونة العراق يعرفون جيدا مجالات الهدم ولا يجيدون شيئا في مسارات البناء.
وهنا يكون السؤال المنطقي من يستفيد من هؤلاء السذج الذين ينشغلون بشكل لحاهم وأثوابهم أكثر من انشغالهم بما تحويه عقولهم وقلوبهم؟ والجواب بسيط تحدده القاعدة الفقهية “الأمور بمآلاتها” أي النظر في عواقب الأفعال، ونتائجها، ومن يستفيد منها.. واستنادا لما حدث في أفغانستان من تغيير سريع لصالح طالبان، ودون مقاومة من قوات الناتو والقوات الأميركية والحكومة الأفغانية، يمكن القول إن هناك رؤية بعيدة المدى تخدمها وتسهم في تحقيقها سيطرة طالبان على أفغانستان بما يعنيه ذلك من خلق لبؤرة تجميع شتات جماعات التوظيف السياسي للإسلام من الإخوان إلى القاعدة وداعش وغيرها.
هذه الرؤية الاستراتيجية البعيدة تهدف إلى نقل منطقة التوتر الأشد سخونة من الشرق الأوسط إلى وسط آسيا، مع الحفاظ على كم من التوترات في العالم العربي تحقق بعض المصالح الاستراتيجية الكبرى. ويأتي هذا في إطار التحول الاستراتيجي الكبير للإدارة الأميركية من أوراسيا إلى المحيط الهادي، وذلك بعد أن صارت المصالح الكبرى للعالم الغربي تتمثل في احتواء الصين وروسيا والهند، تلك القوى التي سوف تزيح العالم الغربي بما فيه أوروبا والولايات المتحدة من الصدارة، وتعيد قيادة العالم إلى آسيا بعد أن انتقلت منها منذ قرنين من الزمان مع الثورة الصناعية إلى أوروبا وامتداداتها في أميركا الشمالية.
بغض النظر عن العلاقات السياسية الوقتية بين طالبان والصين إلا أن المخطط الاستراتيجي الذي مهد الطريق لطالبان كان يستهدف إرباك وتشتيت الصين وروسيا والهند. وسوف تكشف الأيام القادمة أن نجاح طالبان سوف يحرك العديد من القوى في تلك المنطقة من طالبان باكستان، ومجاهدي كشمير، وحزب التحرير في وسط آسيا، والجماعات الدينية العنيفة في كل تلك المناطق. وسوف تمثل أفغانستان واحة أمان للهاربين والفاشلين والمطرودين من فروع تنظيم الإخوان في دول الخريف العربي، ولفلول داعش والقاعدة الذين سيدخلون إليها فرادى وبعوائلهم في حركة بشرية عادية ثم يعيدون تجميع أنفسهم وتوحيد جهودهم بعد ذلك.
ما حدث في أفغانستان يصب في مصالح أطراف أخرى، تماما كما حدث في العراق حين تحركت الأحزاب المنتمية لتنظيم الإخوان السني والشيعي لتمهيد الطريق لدخول القوات الأميركية واحتلال العراق ليقع في نهاية الأمر في حضن إيران، ويتحول إلى تابع سياسي لنظام ولاية الفقيه، وكذلك حين احتشدت كل الجماعات السنية من الإخوان والسلفية الجهادية في سوريا لتقع هي الأخرى في حضن إيران وحزب الله.. وهكذا تكون نهاية أفعال جماعات، حركتها تسبق عقلها، وتدميرها يسبق تفكيرها.
نصر محمد عارف – أستاذ العلوم السياسية ـ جامعة القاهرة – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة