لعل الأهم فيما يشغل السوريين، هو الأحاديث المتصلة بـ«حملة مكافحة الفساد»، التي يتابعها نظام الأسد، وما يتصل بها من إجراءات وإشاعات، تتواصل ضد قائمة من رجال المال والأعمال، لم تقتصر محتوياتها على أسماء كثير ممن اغتنوا بصورة فاحشة في سنوات الصراع السوري الأخيرة، بل شملت أسماء لشخصيات من أركان النظام، منهم رامي مخلوف ابن خال رئيس النظام، والذي كان يوصف في أوقات سابقة بأنه يدير أموال واستثمارات العائلة، والأهم أن تلك الأحاديث تجاوزت العادي في الإشارة إلى أصحاب أعمال وأموال من المدنيين، فتناولت أسماء من العسكريين والأمنيين، الذين شاع انخراطهم في أنشطة إجرامية مريبة في الأعوام الأخيرة.
فكرة «حملة مكافحة الفساد» لم تكن فكرة نظام الأسد، رغم أن للأخير تجارب ملتبسة، تكررت مراراً في عهد الأسد الأب. بل هي فكرة طرحها الروس على رأس النظام، ليتم القيام بها من قبل الرئاسة تحت مراقبة ومتابعة الطرف الروسي مباشرة. والهدف منها، يتضمن 3 أمور رئيسية؛ أولها تجميل صورة النظام من خلال الإيحاء بأنه يطبق إصلاحات اقتصادية، ويلجم فلتان بطانته من رجال المال والأعمال، ولا سيما الشبيحة الذين انتهت مهمتهم، والثاني تأمين موارد محلية لخزينة النظام الفارغة وسط ما يواجهه من صعوبات بين مؤشراتها انهيار أسعار صرف الليرة السورية، والأمر الثالث تأكيد حضور الدولة بعد غياب طويل، على أعتاب مرحلة إعادة الإعمار، التي يحاول الروس إطلاقها، ويقابلها العالم بحذر شديد، ويطرح اشتراطات للبدء فيها، إضافة إلى هدف خفي، أساسه إحكام النظام قبضته على بطانته الاقتصادية والمالية، والاستيلاء على بعض ثرواتها، التي راكمتها في سنوات الحرب.
لقد كرّست السنوات الماضية حالة من الفلتان الاقتصادي والمالي. ففي الوقت الذي تعطلت فيه القطاعات الاقتصادية الرئيسية كلياً أو جزئياً، وتوقفت أنشطتها تقريباً، وتعطل تطبيق التشريعات والقوانين، وصارت السلطة في يد الأجهزة الأمنية والعسكرية وقادة الميليشيات، انفتحت الأبواب واسعة على أنشطة متعددة انقسمت إلى ثلاثة؛ أولها نشاطات تقليدية بما هو معروف عنها من صناعة وتجارة وخدمات، والثانية أنشطة جديدة، خلقتها وأشاعتها بيئة الحرب، ومنها عمليات التعفيش والاتجار بالممنوعات وتحويل الأموال وتبييضها وتجارة النفط، والثالث نشاطات هجينة، زاوجت في البيئة الصعبة بين الأنشطة التقليدية والأنشطة الجديدة، وكانت الأكثر حضوراً في اقتصاد الحرب، وقد انخرط فيها أركان النظام ومقربون منهم إضافة إلى ضباط في الأمن والجيش وقادة في الميليشيات، ليشكلوا البطانة الاقتصادية للنظام، التي استباحت البلاد وسكانها على مدى سنوات الحرب، فتاجروا في كل الأشياء، بما فيها الآثار والمخدرات والمسروقات والمواد الغذائية الفاسدة، وتعاملوا مع كل الأطراف، بمن فيهم «داعش»، واستخدموا السلطة وأجهزتها من أجل الربح والتربح وتبييض الأموال، وراكموا أموالاً من الرشوات و«الخوات»، ولم يتركوا وسيلة لمراكمة ثرواتهم إلا واستعملوها.
وتشكلت البطانة الاقتصادية من رجال المال والأعمال المعروفين قبل الثورة، أمثال رامي مخلوف ومحمد حمشو، ونادر قلعي، وطريف الأخرس، وتوسعت بحضور أسماء كثيرة، طوّرت وجودها وأعمالها، وأخرى جديدة دخلت ساحة المال والأعمال، بينهم فارس الشهابي وخالد حبوباتي ووسيم قطان وسامر الفوز والإخوة قاطرجي، وكان دخول هؤلاء ناتجاً في أغلبه عن الظروف الداخلية، بما فيها من توازنات وعلاقات جديدة من جهة، والتطورات الخارجية من جهة أخرى، وأهم ما في الأخيرة حاجة النظام إلى تبديل الوجوه والأسماء، في ضوء وضع كثير منهم في قوائم العقوبات الدولية.
وإذ راكمت مجموعة رجال المال والأعمال في السنوات الأخيرة ثروات خيالية، عبر نهبها مقدرات الدولة وثروات المجتمع، طبقاً للتقديرات المتداولة، فإن القسم الرئيسي من هذه الثروات، يعود إلى 3 مرجعيات، القسم الأهم محسوب على رأس النظام بشار الأسد، وأبرز رموزه سامر الفوز، والثاني محسوب على شقيق الرئيس العميد ماهر الأسد، وأبرز رموزه محمد حمشو، والثالث محسوب على عائلة مخلوف، وأبرز شخصياته رامي مخلوف، ويتوزع القسم الأقل من الثروات الخيالية على مئات من الأسماء، صعدت إلى عالم الثروة في السنوات الأخيرة، إلى جانب فئات من الأغنياء التقليديين الذين ساروا في ركاب النظام في مراحل سابقة.
إن ظروف الحرب بالتزامن مع الإفقار المكثف للدولة والمجتمع والنهب الواسع الذي مارسته عصبة النظام من رجال المال والأعمال، أدت إلى كارثة اقتصادية، يعجز النظام عن حلها أو الاستمرار في ظلها، في وقت بات عليه إثبات وجوده وقدراته، ما دفع حلفاءه الروس إلى اقتراح خطة متكاملة، تحت مسمى «الحملة على الفساد»، ركزت على محاور أساسية، تضمنت فرض حصص مالية على كبار رجال المال والأعمال، وإجبار الحاصلين منهم على قروض من بنوك الدولة على تسديدها في أسرع وقت ممكن ومطالبتهم بتسديد كل الضرائب المترتبة عليهم، والضغط على رجال الأعمال لسحب إيداعاتهم في المصارف الخارجية ووضعها في المصارف الحكومية السورية، وتوجيه غرف التجارة لإنشاء صندوق تدخلي للتدخل بهدف خفض سعر الدولار، وتشجيع أعضائها على إيداع القطع الأجنبي في المصارف الرسمية.
وفرضت الخطة القيام بإجراءات عملية من جانب فرق تابعة لقصر الرئاسة، تحت إشراف ومراقبة الجانب الروسي. وتضمنت الإجراءات ضمن قائمة طويلة إلقاء الحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة لمئات من رجال المال والأعمال وأقاربهم وعوائلهم، وضبط السجلات المالية لشركاتهم ومؤسساتهم، والتدقيق فيها لكشف المخالفات، بالتوازي مع القيام بمصادرة أموال شركات تحويل الأموال وبعض أموال البنوك وتحويلها إلى مصرف سوريا المركزي لرفع قيمة العملة المحلية.
وسط تلك الإجراءات، وبما هو معروف عن النظام وطبيعته، فإن قدرة النظام على إتمام هذه العملية وصولاً إلى تحقيق أهدافها، والتعامل مع نتائجها، أمر مشكوك فيه، ما يجعل العملية كلها في دائرة الشكوك ومحدودية النتائج، بحيث إنها يمكن أن تتمخض فقط عن ابتلاع بعض ثروات الرموز الضعيفة، وتصفية بعض الوجوه المحروقة في بطانة النظام من رجال المال والأعمال، وهو ما أكدته مصادر إيرانية حليفة لنظام الأسد بالقول إن قائمة رجال الأعمال أثناء سنوات الحرب ستشهد تغيرات مهمة بعد انتهاء الحرب وبدء الاستقرار.
فايز سارة – كاتب سوري – الشرق الأوسط
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة